مقطع مـن حياة الستينات الشـاقـة التــي أنتجت جيـلا اردنيا صلبا


ألم يجدك يتيما فآوى!
جاء يوم الجمعة وانا غارق في خدر النوم الصباحي اللذيذ، لم توقظني امي في غبش ذلك الصباح ولم اذهب يومذاك الى المحجر الرهيب.
بدل الذهاب الى المحجر والكسارة، ذهبت لأداء صلاة الجمعة في المسجد، ذهبت مبكرا، امسكت القرآن، قبّلته قبلةَ عشقٍ طويلة، فتحته على سورة الضحى، السورة التي احبها بلا حدود، وما زلت اعتقد انّ الله يقصدني فيمن يقصد بهذه السورة، يقصد بها كل يتيم مخذول مّر في ظروفٍ وحشية تشابه ظروفي.
«والضُّحَى واللَّيْلِ إِذَا سَجَى. مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى. وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى. ألَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى. وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى. فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ».
قرأتها عدة مرات فاجتاحتني السكينةٌ وغمرني الرضى، كان الله حبيبي معي.
كنت أنهضُ فجرا والظلامُ يغمر المدينةَ، أقرعُ البابَ الأوّل، باب محمد الرواد، ثم اقرع الباب الثاني باب علي عزيز، ثم باب عبد المهدي التميمي وباب خالد جدوع وباب هايل دخيل وباب علي خميس الشويعر، وما هي الا دقائق حتى يتجمع الشبّان فننطلق في مجموعة صامتة، في ظلام شبه كامل، الى مسجد المفرق الكبير من قلب المدينة.
كنا نفتح جميع أبواب المسجد ونضيء كل جنباته ونرتب ما يحتاج الى ترتيب، ثم ننقسم الى فريقين، فريق يذهب لإيقاظ المؤذن، وانا ومن معي، نذهب الى منزل الأمام المجاور، نوقظه، وننتظر ان يخرج علينا، نقبّل يدَه ونحفّه من الجانبين في موكب هاديء رزين صار يكبر مع الوقت، ينضم الينا فيه عددٌ من الشبّان، وعددٌ من المصلين الكبار، فنصطحب الامام الامجد المصري الأصل حتى نوصله الى المحراب وهو في حالة زهو بارزة.
كنا نصلي في صفٍّ واحد ثم نقرأ القرآن ساعة من الزمن، ونعود الى بيوتنا في حي المعانية غرب سكة الحديد ونحن في ذرى الإنتشاء والزهو والارتياح.
اصبحنا اسرة واحدة وموضع ثقة جميع اهل الحارة وكانت شهادة الواحد منّا تؤخذ فورا كمُسلّمة. لم نعد نتشاجر.
كنا عائلة واحدة في تلك البلدة الوادعة. اصطحبُ ميشيل النمري للاستماع الى خطبة الجمعة من الشيخ الأمجد ويصطحبني الى الكنيسة لأستمع الى موعظة الاحد من الخوري بولس.
كنا نريد ان نعرف ماذا يدور في بيوت الله. وكان المصلون المؤمنون، المسلمون والمسيحيون، يرحبون بنا وتشي نظراتهم وترحيبهم بسرورهم بهذا السلوك، وكان ما يدور هناك بعيدا كل البعد عن التفريق، قريبا كل القرب من التوفيق.
أم رياض و أم محمد
كانت حُسُن ام رياض، تسكب طبختها الشهية الربداوية «المكمورة» فيأكل كل أبنائها من صحن واحد: رياض وفخري وميشيل ومحمد وجمال وجميل وجورج وبسام وباسم والابنة الوحيدة فايدة.
وكانت جَظّة أم محمد، تقدم لنا: ميشيل ومحمود كساب وسرحان النمري ومحمد الرواد وعيسى بطارسة وعبد المهدي التميمي ونايف عطالله الليثي وعلي محمد ابراهيم، قطايف رمضان ومنقوع القمردين، ولا يخطر في بالها ان في بيتنا غريبا.
وكما عشت طفلا في بيت جدي في معان، سكنت شابا في بيت خالي إبراهيم أبو شنب في معان. تم تعييني، معلما للغة الإنجليزية والرياضة، في مدرسة فلسطين في معان. وعندما راجعت مديرية التربية هناك صادفت المساعد الإداري محمد خطاب الذي ما أن رآني حتى قال: أنت محمد بن حسن ابن جظة بنت مزعل بنت فضية من قوم حرارة!!
وأضاف وسط دهشتي: أخوالك هم إبراهيم ومشري وعبد الحليم وتلا عليّ أسماء خالاتي وإخواني وأخواتي.
كان محمد آل خطاب نسّابا لا يشق له غبار. ولطالما سامرته استعين به على تدريب ذاكرتي.
بير أبو العلق
اعتُقل المعلم البعثي عبدالحميد الذنيبات، الذي كان معلما منفردا في مدرسة بير أبو العلق في الشوبك، وظل طلاب مدرستها شهرين بلا معلم، فأعربت عن رغبتي في العمل في تلك المدرسة إلى حين الإفراج عن المعلم المعتقل.
حملني عودة المعاني مدير التربية والتعليم، عصرا بالسيارة الرسمية إلى «بير أبو العلق» لاعمل معلما منفردا، طلب مني أن استخدم «يطق» المعلم المعتقل المكون من سرير وملحقاته.
أوصلني الرجل الشديد التهذيب إلى المدرسة ومضى
تتكون المدرسة من غرفتين، غرفة لمعيشة المعلم ونومه وللإدارة والغرفة الأخرى للتدريس. لم يكن للمدرسة «منافع»، كانت الحمامات و»الشوَرات» ترفاً لا نفكر فيه.
كنا في شهر كانون الاول سنة 1966، وبرْدُ الشوبك الرهيب في أول تفتحه، وثلج الشوبك الموصوف، ما يزال في طوره الجنيني.
وجدت في الغرفة سريرا وملحقاته وصوبة بواري. كنت حملت معي «جركني» ديزل ورطل خبز وكروز سجائر من نوع كمال وكروز كبريت وعبوة سعة كيلوغرامين من زيت الزيتون الطفيلي وعبوة من الزيتون المكبوس الطازج وعددا من معلبات التونا ماركة الوردة ومعلبات البولبيف البرازيلي الشهير ماركة اكسترا وحملت معي البيض والملح والسكر والشاي.
لم أكن اعرف القهوة ولا اشربها، ولاحظت وجود صناديق وعلب مغلقة، وبالطبع حملت معي راديو «ترانزستور» وبطاريات إضافية وحقيبة مليئة بالروايات وبدواوين الشعر الجاهلي وأبرزها ديوان المتنبي وديوان الهذليين، الذي فيه أجمل قصائد الرثاء الإنساني بلا منازع، تلك التي يقول فيها أبو ذؤيب الهذلي:
أَمِنَ المنون وريبها تتفجّعُ والدهرُ ليس بمعتبٍ من يجزعُ.
وإذا المنيّةُ أنشبت أظْفارَها الفَيتَ كُلَّ تَميمةٍ لا تَنفَعُ.
فتحت ثلاث علب تونا أكلتها على الواقف، شربت زيتها، تناولتها من دون صحن ومن دون ليمون ومن دون خبز.
نمت بعمق لم أعهده، استيقظت على الساعة السابعة، توجهت إلى بئر الماء القريب، القيت فيه الدلو المطاطي المربوط على فوهته، حركته عدة مرات حتى اصبح الحبل مشدودا فسحبت الدلو الذي اصبح مليئا بالماء. غسلت طنجرتين وسطلا من الألمنيوم افرغت الماء فيها ثم ملأت إبريق الشاي ووضعته على الصوبة.
اكتشفت أن غرفتي مليئة بالمواد الغذائية. عبوات الشاي المسحوق الزجاجية سعة 500 غرام لكل عبوة. كيس من السكر زنة عشرين كيلوغراما. ثلاثة أكياس من الحليب المجفف زنة عشرة كيلوغرامات. عدس وفاصولياء بيضاء وبازيلاء ناشفة وأكياس صغيرة من الملح وعبوات من المربى سعة خمسة كيلوغرامات لكل عبوة ووجدت كيسي طحين.
أفطرت وأشعلت سيجارة وتجولت أمام المدرسة في طقس خلاب نديّ نقي، لدرجة أنني لمت نفسي على تلويث البيئة بسيجارتي.
نظرت إلى ساعتي الجوفيال، كانت الثامنة صباحا، لم يصل الطلاب بعد. أصبحت الساعة التاسعة والعاشرة والثانية عشرة والثانية بعد الظهر ولم يأت الطلاب.
ذهبت إلى القرية فلم أجد فيها أحدا. كنت وحيدا في تلك البقعة الجبلية الباردة الفسيحة.
تتصل بيوت القرية وتلتصق كانها أجساد مقرورة تتجمع حول موقد حطب في احدى ليالي الشتاء الباردة طلبا للدفء. كنت أرى من مدرستي اسطح المنازل الطينية وكانها سقف فسيح واحد.
قلت لنفسي: ما الذي يدفع القرويين للتكوّم على هذا النحو؟ لا بد ان سببا مهما يدعوهم الى فعل ذلك فالاراضي متوفرة وهي مجانية فلماذا لا يتناثرون؟
شعرت بالوحشة فدخلت الى الغرفة واحضرت مسدسي البيريتا الذي اشتريته من معان بثلاثين دينارا بالتقسيط بواقع دينارين شهريا بكفالة الخال.
قال لي خالي أبو شنب ونحن في الطريق الى منزل تاجر السلاح: يجب ان تحتاط، ففي المنطقة ذئاب وضباع، تتحرك عادة على شكل قطعان.
مرت أربعة أيام لم أشاهد خلالها إنسيا ولا ضبعا و لا ذئبا. ولم أتحدث مع احد. بلغ ضجري وتوجسي مداهما.
ذات عصر لمحت خيّالا يتحرك على بعد كيلومترات، لوّحت له بيديّ فلم الفت انتباهه، أطلقت طلقتين في الهواء، توقف وتوجه نحوي. ترجل وربط حصانه بالشباك واقبل مرحبا بي ترحيبا حارا.
قال لي: غادر الأهالي القرية مع طلابهم وأغنامهم وخيولهم وحميرهم في بداية الشتاء إلى المناطق الدافئة «المدافي» ولم يخبرهم احد عن عودتك إلى المدرسة.
غرف الصفوف كانت فريزرات
بعد يومين طويلين من الانتظار، وصل الطلاب ومعهم بغلان يحملان عجوزا ومتاعهم وطحينهم، سكن الطلاب العشرة في بيت واحد مكون من «قَطْعٍ» كبير ومعهم العجوز التي افرزوها لتخبز وتطبخ لهم طعامهم المكون من العدس والجريش والرشوف.
قال لي الخيّال: إن المواد الغذائية الموجودة في غرفتي هي تبرعات من جمعيات خيرية دولية لطلاب القرى الفقيرة.
نقلت مقاعد الطلاب من الغرفة الأخرى ذات الزجاج المكسور التي تشبه «الفريزر» في شدّة برودتها، إلى غرفتي التي أصبحتُ ادرّس الطلاب فيها.
قررت أن أغيّر عادة توزيع المؤن على الأهالي، التي لا يحصل الطلاب بموجبها حتى على إذن الجمل. أصبحت اغلي الحليب المجفف في الطنجرة الكبيرة وعلى بريموس ضخم، الساعة العاشرة صباح كل يوم، بما فيه يوم العطلة الجمعة، واسكب الحليب الدافئ المحلى للطلاب في أكواب كبيرة، وهم يتحلقون حول الصوبا ووجوههم غاية في الاحمرار.
كان ثلاثة من الطلاب العشرة في الصف الثاني وثلاثة منهم في الصف الثالث وثلاثة منهم في الصف الرابع وطالب واحد في الصف الخامس.
هطلت ثلوج الشوبك. كثيفة بلا انقطاع لمدة ثلاثة أيام. وصل ارتفاع الثلج إلى نصف ارتفاع باب الغرفة.
لم يأت الطلاب، فذهبت إلى مسكنهم للاطمئنان عليهم، كان المشي ثقيلا وصعبا. وصلتهم شبه متجمد، فوجدت العجوز قد أشعلت حطبا في الغرفة التي يتعذر أن يرى من فيها ابعد من أصابعهم.
ألقت عليّ فروة ثقيلة كانت تنام فيها، مر وقت قبل أن يسري الدفء في اوصالي.
أصر الطلاب على أن أنام عندهم، فنمت. سهرت معهم. اجبت على اسئلتهم وحكيت لهم كيف هو العالم في الخارج، ورويت لهم قصصا عن تاريخ المنطقة، عن المؤابيين والأنباط الذين تبعد مدينتهم البتراء عن قريتهم مسافة 20 كيلومترا، استأت عندما علمت أنهم لم يزوروا البتراء بعد.
لما حل الربيع استأجرت «بكبا» بدينارين ذهابا وإيابا، حمَلَني مع طلابي إلى البتراء، حيث أمضينا يوما كاملا، نتجول بين آثارها ونتعرف على تاريخها من دليل سياحي شهم، يملك مطعما صغيرا، أصر على أن يدعونا اليه لتناول طعام الغداء وزجاجات المياه الغازية التي يشربها الطلاب لأول مرة في حياتهم.
عالم الشوبك خرافي
كان ثلج الشوبك الكثيف صاعقا ومفاجئا لي. أنا الذي ولدت في بادية الشام في الاجفور»الرويشد»، وعشت معظم سنيّ عمري في المفرق وجزءا منها في معان.
لم تكن لي خبرة في التعامل مع الثلج.
تواصل الهطل متقطعا لمدة شهرين تقريبا، كنت في عزلة عن العالم ما خلا الطلاب الأطفال العشرة والعجوز «المدقدقة الحنك» كثيرة التدخين شديدة الصمت، كان الطلاب يمضون معظم نهارهم في غرفتي، يدرسون وينجزون الواجبات المدرسية ويشربون الحليب الساخن المضاعف التحلية، عندما يريدون، ويتناولون المربى «التطلي» اللذيذ وهم يتكومون حول صوبة البواري الكبيرة التي تجعل وجوههم حمراء كحبات الشمندر.
حاولت أن أطهو لطلابي وللعجوز ولنفسي، الأرز والفاصوليا البيضاء والبازيلاء والحمص الناشف والعدس الحب، وضعتها كلها في الطنجرة الكبيرة وسكبت عليها ماء ورششت عليها الملح وذريرات الفلفل الأسود وتركتها نحو ساعة على نار البريموس.
صُدمنا أنا وطلابي عندما سكبنا مزيج الحبوب المطبوخة في صينية كبيرة وأخذنا نتغدى. لم ينضج من المزيج إلا الأرز! فقد ظلت باقي أصناف الحبوب على قساوتها. عوضت الطلاب عن ذلك بان فتحت لهم عدة علب سردين وتونا وقليت عددا من البيضات بالسمن البلدي فتناولناها بخبز الشراك المصنوع من القمح البلدي.
كان جذل الطلاب لا يوصف، وكان فرحي بهم وثيرا، ولاحقا عندما أخبرت امّي عن طبختي قالت: كان يجب عليك ان تنقع الحبوب الصلبة بالماء عدة ساعات قبل طبخها.
مر عليّ شتاء عام 1966 قاسيا جدا، فقد كنت في غربتي الأولى بعيدا عن أهلي في المفرق مئات الكيلومترات وبعيدا عن الطريق العام الذي يخترق قرية بئر الدباغات، القرية المجاورة البعيدة نحو خمسة كيلومترات.
لم يكن في القرية معي إلا الطلاب وعجوزهم العمشاء كليلة النظر، فأخذت أخطط إلى مغادرة «القماط» الحديدي الذي أنا فيه، والاتصال بالمعلمين في القرى المجاورة، اغتنمت صحو السماء وذوبان الثلج وترافقت مع قروي عابر سبيل وذهبت ظهر يوم خميس إلى بئر الدباغات وهناك التقيت بالمعلم محمد الملكاوي الذي كان منفردا هو الآخر.
استضافني الملكاوي أمضينا الليل في الثرثرة، التي كان كلانا محروما منها، وفي الصباح توجهنا الى الدكان القريبة، التي تقع على الطريق الواصل بين الشوبك ووادي موسى.
كان في الدكان هاتف عمومي، دعاني التاجر عوض إلى الاتصال منه مع الأهل فاكتشفت انه لا يوجد هاتف في كل حارة المعانية التي نسكن فيها في المفرق.
كان عوض يبيع تبغ الهيشي والسكر والشاي والأرز والطحين وعلب التبغ وعلب الثقاب والراحة «الحلقوم» وقطع الحلوى الشعبية « الكعكبان» والزبيب والتين المجفف «القطين» والكاز ومعلبات السردين والتونا والبولابيف.
أصبحت امضي عطلة نهاية الأسبوع «الويك إند» في ركوب الخيل من قريتي الى وادي موسى والبتراء حيث أنام ليلة في الفنادق الشعبية أو امضي «الويك إند» في ضيافة المعلم محمد الملكاوي في بئر الدباغات كلما سمح لي الطقس بالحركة.
كنت أتحرك بعد ظهر يوم الخميس وأنام في الدباغات ليلتين وأتحرك عائدا إلى طلابي ومدرستي صباح يوم السبت أمشي المسافة الفاصلة بين المدرستين، والنديّ يبلل رموش عينيّ، اصعد المرتفعات واهبط المنحدرات، في الطريق الترابي الفاصل بين القريتين متحزّما بمسدسي البيريتا، الذي استبدلته لاحقا ببندقية خرطوش، اصطدت فيها حجلا بالعشرات، كنا نعكف أنا وزميلي الملكاوي على نتف ريشه وتنظيفه في الماء المغلي ثم نشويه على حطب البلوط واللزاب ونأكل أشهى «باربكيو» تناولته في حياتي.
تقع بئر الدباغات وسط غابة يسميها الأهالي «الهيشي» تعودنا إن ندخلها بحثا عن الشنانير.
اقترحت على الملكاوي ان نسكن معا في بير الدباغات أو بير أبو العلق فقال مازحا:
الدباغات أرقى !! الدباغات تقع على الطريق العمومي وفيها دكان وهاتف!
كان مصيبا، فحملت «يطقي» المكون من سرير وفرشة ولحاف، على بغل وفّره لي عوض. سكنت في الدباغات ثلاثة شهور، إلى أن جاءت العطلة الصيفية، كنت، امشي نحو 10 كيلومترات بين القريتين ذهابا وإيابا يوميا، إلى طلابي ومدرستي في أجمل وأكمل وأمتع رياضة يمكن أن يمارسها إنسان، ترتب على ذلك المراثون اليومي أن تركت التدخين!
كنت أتنفس رحيقا وربيعا وطبيعة تأسر الألباب، أمر في طريقي على أفعى متكورة، لم يتحرك دمها البارد بعد، فلا أدوسها ولا اقتلها، وكنت المح ابن آوى - «الحصيني» فأوشك أن ادعوه إلى الغداء.
وحصل أن صادفت قرويا، يمشي بتثاقل.
استوقفته وسألته: ما بك تمشي كالعجوز وانت ما زلت شابا ؟
شكا لي من منطقة الكُلى وقال: والله يا اخي انني لا اعرف النوم احيانا، اصرخ من شدة الألم مثل المرأة الولادة.
ولأنه كان متعذرا أن اصف له «البيرة» علاجا، فقد قلت له: اسمع يا عم، إغْلِ كمية من الشعير وصَفِّ ماءها واشربها على الريق وقبل النوم يوميا.
زارني الرجل بعد نحو شهر وهو يسوق خروفا ويقول: الله يبيض وجهك يا الطفيلي، شفيت شفيت من مية الشعير.
قدم لي الخروف وهو يقول: هذا هدية من اخ الى أخيه.
لا يتمكن المرء من وصف مناخ الشوبك الخلاب وخيراتها دون أن يُخلّ بأمانته، فقد حملت تفاحا وسفرجلا من الشوبك إلى الأهل في المفرق وأهديت شيئا منه إلى «المعلم» محمد سكّر، الذي اندهش من طعم التفاح ونكهته ورائحته.
قال لي محمد سكّر: يمكنك يا محمد أن تحمل هذا التفاح هدية إلى اللبنانيين أهل التفاح.
أصبحنا نتزاور ونلتقي عندي في «البير» أو عند الملكاوي في «الدباغات» أو عند مأمور العيادة عدنان خطاب في بير خداد أو عند محمد النعانعة في «الشمّاخ» أو عند أمين الصغيّر في «حوالة».
تجمع المعلمون عندي يوم الجمعة، ذبح أمين الصغيّر الخروف الذي كبر واصبح سمينا، سلخه وقطّعه خلال نصف ساعة، وسط دهشتنا وتساؤلاتنا.
قال أمين: كان خالي قصّابا وكنت اساعده في العطل المدرسية.
شوينا قطع اللحم الكبيرة على نار الحطب الهادئة واكلنا بشهية مفرطة. فقد كان اللحم نادرا وعلى الطلب ولم يكن يوجد قصابين في كل القرى التي نعمل فيها.
كنا نتبادل الكتب والآراء السياسية، نتحدث عن عبد الناصر والاتحاد السوفياتي وأميركا وإسرائيل، والغريب أن المرأة بكل وميضها وجلالها وجمالها ودفئها، لم تتخلل أحاديثنا في ذلك القفر البارد الموحش، رغم أننا كنا مجتمعا من العزّابية، فهي بالنسبة إلينا، مخلوقة فضائية موجودة فقط في القصائد والروايات، يهبط القلب لرؤيتها في الدورات التربوية في معان أو لدى اللقاء الشهري لاستلام الراتب في البنك أو في سرفيس معان-عمان أخر كل شهر.
كل ذلك العناء كان بعشرين دينارا وثمانية عشر قرشا هي راتبي الشهري الذي كنت أوزعه على النحو التالي: ستة دنانير لمصاريف أهلي وديناران للوالدة ودينار قسط شهري لبنطلوني الهيلد الإنجليزي الفاخر والباقي لشراء الكتب والأكل والشرب والكساء والغذاء والمواصلات.
ومن الغرائب أنني ما مرضت وما تناولت حبة دواء طيلة خدمتي في الشوبك التي امتدت ثلاث سنوات في بير أبو العلق ثم بير الدباغات ثم الشمّاخ.
تتميز الشوبك بالتوازن والانصاف، فهي تعوّض شقاءَ شتائها القارس الرهيب، بربيع فوّاح باذخ خلّاب، لا يضاهى، يكشف عن رحابة الشوبك وفرادتها وحنانها. تغدق عليك الشوبك ضوعَها وعبقَها وبهجةَ خضرتها الزاهية، فتنسيك كل معاناة الشتاء وظلمته وكآبته.
أمضيت أول وأجمل ربيع حقيقي مرّ عليّ في حياتي.
كنت في التاسعة عشرة، في العمر الذي تعتبره الأمهات، في كل العالم، سن خداج وطفولة وحضانة ورعاية، لم ترَ عيناي ربيعا كهذا، حيث يطاول العشب البري قامتي ويوشك «سَبَلُ» القمح، الجانح إلى الزرقة، أن يصبح موجا وان يصبح حفيفه موسيقى رائقة تتغلغل في الروح.
أغرقنا أهالي الطلاب بالحليب الطازج وبالبيض وبأكوام الزبدة وبالفريكة وبالعسل البري الذي تقطعه السكين بصعوبة، قال زميلي المعلم محمد الملكاوي: يا صاحبي لا يستجيب الأهالي لمناشداتنا أن يتوقفوا عن إحضار الزبدة التي تحتاج إلى ثلاجة نحفظها فيها.
وأضاف: سنغلي الزبدة ونجعلها سمنا بلديا نحمله معنا حين سفرنا آخر الشهر.
حلّت عطلتي الصيفية الأولى، فغادرت «قريتي» بير أبو العلق الى المفرق متثاقلا. قلت لنفسي: هاهنا المتعة الحقيقية والالتحام بالطبيعة وبالمكان والصيد والسهر إلى مطلع الفجر والنوم إلى الساعة العاشرة صباحا.
الحلقة 12 تتبع يوم الأربعاء المقبل