تين عيار 21 !!

 

 


نعرف كم تغير العالم، وكم من التغيّر طرأ على متوسط دخل الافراد، وبالتالي أسعار الضروريات قبل الكماليات، ولا يعقل أن نطالب أصحاب العقارات بأن تكون أجرة الشقة عشرين أو ثلاثين ديناراً كما كان الحال قبل عقود.. لكن لكل شيء حدوداً معقولة حتى لو كانت تقريبية، والعالم العربي الذي لا يأكل مما يزرع ولا يلبس مما ينسج ولا يتداوى خصوصاً في الامراض الصعبة بما يصنع غادر منذ زمن طويل ما كان يسمى الاكتفاء الذاتي، وبالرغم من هذا كله، فان التين مثلاً لا يصلنا في علب ثمينة من بلاد الاسكيمو، أو من المريخ فهو يملأ بساتين الشام وسفوح عجلون وقرى فلسطين.

قبل عام وفي مثل هذه الايام كدت أن اكتب عن هذه الثمرة ذات الحليب والتي استحقت مع توأمها الزيتونة القسم القرآني بعد أن اقترنتا بالبلد الأمين، فقد شاهدت قبل صيف في محلات الفواكه والخضار يافطة صغيرة كتب عليها سبعة دنانير وظن بعض الناس ان هذا المبلغ هو ثمن صندوق التين أو السّدر الصغير، لكنه كان سعر الكليو الواحد..

ويومها سخرنا قائلين ان التين في بلادنا من عيار 18، ويستحق بعد فترة ان يقدم للعرائس الى جانب الحلي أو بديلا عنها، لكن ما حدث هذا الصيف لم يسمح للسخرية أن تبقى سرية.. فقد اجريت تحسينات سلالية على التين بحيث أصبح الكليو منه بعشرة دنانير وبمعنى أدق بخمسة عشر دولاراً، ذلك لأنه اصبح من عيار 21، ولا ندري بكم سيكون كيلو التين أو حبة التين الواحدة بعد عام أو عامين، فقد نشتريها في علب مجوهرات بالحبة الواحدة، ومعها وثيقة باسمها واسم عائلتها ومدة صلاحيتها، وان كنا قد توقفنا هذه المرة عند التين من عيار واحد وعشرين، فذلك للمثال فقط، فهناك في بعض المولات الحديثة ليمون يصل سعر الحبة الواحدة منه الى دينارين رغم انه حامض أيضا وله جلدة خضراء، لكن ارتفاع سعره على هذا النحو الباهظ بسبب انتمائه الى اسرة عريقة لا نعرف أين ولدت وأين تعيش في جنوب افريقيا مثلاً أو غيرها رغم ان جنوب افريقيا قاومت وانتصرت على التمييز العنصري بين انسان وآخر وبالتالي بين ليمونة وليمونة!

كم ارتفعت أجور الناس في هذا العالم العربي المنكوب بكل المقاييس كي يصبح بمقدور الناس شراء ما يحتاجون، فالكبار قد يعفّون عن التين لأنهم اتخموا منه صغاراً وان كانت الطيور كانت تسبقهم اليه وتنقره كي تتذوق الافضل منه، لكن اذا مدّ طفل يده الى حبة تين فلا يستطيع الأب أو الأم ردها خاوية ولا يمكن لهما بالطبع ان يشتريا حبة تين واحدة..

التين العربي الآن ينافس الكافيار الروسي أو الايراني في السعر، وغداً ستنافس الخيارة ثمن الكتاب أو دفتر المدرسة وبعد عام أو عامين ستعرض في الواجهات الزجاجية عيّنات من البندورة الصغيرة أو الشيري ويكتب عليها للعرض فقط.

وقد تصبح تلك الحكاية التي تعلمناها في طفولتنا وهي غنية بالدلالات عن الفقير الذي مرّ بمطعم يبيع اللحم المشوي فقرر ان يقضم الرغيف اليابس الذي كان يضعه في جيبه على رائحة الشواء.. في الحكاية قبل بائع اللحم رنين القرش ثمناً للرائحة، لكن في الواقع قد لا يحدث هذا.. فالرائحة أغلى من الرنين حتى لو كان للذهب، ما دام التين أغلى من علاج الانفلونزا بثلاث مرات، وضعف سعر كتاب من اربعمائة صفحة.

المطلوب من فقهاء العرب في حقبة ما بعد الحداثة وما بعد التجويع وما قبل التسول بدقائق ان يفسروا لنا هذا اللغز وهو كيف تحول فائض الثروة والثمر الى فائض فقر وَلُعاب؟!