«مستر لنكولن الشاب» لجون فورد: بدايات رئيس حقيقيّ

أخبار البلد - في العام 1939 حين اقترح المخرج جون فورد على صديقه وممثله المفضل في ذلك الحين، هنري فوندا أن يلعب دور الرئيس الأميركي آبراهام لنكولن، حين كان هذا الأخير لا يزال في أول شبابه لا تخطر في باله فكرة أنه سوف يصبح عما قريب رئيساً للولايات المتحدة، تهيّب فوندا الموقف ورفض الاقتراح قائلاً إنه غير قادر على أن يلعب أمام الكاميرا دور نصف الإله الذي كان لنكولن في زمنه. هنا ما كان من فورد إلا أن ابتسم لصديقه ساخراً قائلا له: «وهل تعتقد أنك ستلعب دور ذلك الرئيس الأميركي العظيم؟ أبداً... كل ما في الأمر أنك ستلعب دور ذلك المحامي الأخرق الشاب الذي كانه لنكولن قبل أن يفكر حتى بدخول معترك السياسة جدياً. هذا كل ما في الأمر صدقني!»، والحال أن هذا الكلام الذي عاد فوندا وتأكد منه لدى قراءته السيناريو، كان هو ما أقنعه الممثل بلعب الدور في الفيلم الذي أنتجه داريل زانوك وسيكون واحداً من أفضل الأفلام التي حققت عن لنكولن وأكثرها إنسانية. ونتحدث هنا طبعاً عن «مستر لنكولن الشاب» الذي أتى ضمن إطار اهتمام روزفلتي باستعادة ذكرى ذلك الرئيس الذي سيعتبر دائماً من أعظم الرؤساء الأميركيين، والذي كان الرئيس روزفلت يعتبره مثله الأعلى، كما يعتبر سيرة حياته سيرة مثالية ينبغي تقديمها إلى الشبيبة الأميركية في تلك الظروف المعقدة التي كان يعيشها العالم وتعيشها أميركا نفسها، في تلك الحقبة.

وهكذا وُلد ذلك الفيلم الذي ظل جون فورد يفخر بتحقيقه حتى آخر حياته ويعتبره التعبير الحقيقي عن مواقفه السياسية الديمقراطية، تلك المواقف التي جعلته يحقق بعض أكثر أفلام رعاة البقر و «الغرب» الأميركي مناهضة للعنصرية، كنوع من التوازن مع أفلام له أخرى بدت للنقاد والمتفرجين ملتبسة وحمّالة أوجه.

منذ البداية لا بد أن نكرر هنا أن هذا الفيلم بالكاد يقترب من الرئيس الذي كانه لنكولن، بل يكتفي بتقديمه كمحام عصامي من خلال واحدة من أولى القضايا التي ترافع فيها، ناهيك بتقديمه كعاشق متيّم لحبيبته الصبية آن راتلدج التي سرعان ما تموت قبل أن يكتمل عقد غرامهما، بل حتى قبل أن يتاح لها من الوقت ما يكفي كي تقول له إنها تبادله حبه المعلن لها. والحال أنه بهاتين الصورتين، صورة المحامي الذي يبدأ متسّما بصورة الأخرق ليتبين أن عنده من الذكاء والألمعية ما يؤهله لاحقاً لاحتلال المنصب الأسمى في بلاده من ناحية، وصورة العاشق الذي تقول سيرته إنه ما استقر في بلدة سبرينغفيلد التي تدور فيها أحداث الفيلم (المحاكمة)، إلا لولعه بآن، من ناحية ثانية. وفي الصورتين على أيّ حال قدر كبير من الإنسانية التي لا يفتأ التاريخ يحدثنا عنا فيما يتعلق بذلك الرئيس الذي سيكون محرر العبيد الأول في بلاده، وسوف يُقتل لإقدامه على ذلك. غير أن هذه الأحداث الأخيرة لا علاقة لها بالفيلم الذي نحن في صدده هنا، حتى وإن كان من المنطقي القول إن ذلك التاريخ الكبير يَمثل في ذاكرة كل مشاهدي الفيلم. ولنذكر هنا أيضاً أن الفيلم في حدّ ذاته يبدو عملاً متقناً ذا حكاية مسبوكة في شكل بديع، بصرف النظر عن شخصية الرئيس التي سيكونها المحامي الشاب الذي هو محور الحكاية هنا.

حتى وإن كان إيب الشاب قد بدأ يدنو من السياسة من خلال خوضه الانتخابات النيابية حين تبدأ أحداث الفيلم، فإن ترشحه لا يبدو لنا سياسياً بل ينضوي في سياق الخدمة العامة التي كانت تجتذب أنماطاً عديدة من الشباب المثقف، لا سيما من ممارسي مهنة المحاماة التي غالباً ما تعتبر مقفزاً نحو العمل السياسي. وهكذا حين يبدأ الفيلم يلتقي لنكولن الشاب بعائلة كلاي المعتبرة من عائلات الرواد في مدينة سالم. وهو منذ ذلك الحين يبدي اهتماماً بيّناً بالعدالة والقانون، في حين تتخذ الصبية التي أولع بها، آن راتلدج، من ولعه ذاك حجة لتشجيعه على الدراسة العملية متنبئة لها بمستقبل زاهر في مهنة المحاماة. وحين تموت آن يقرر إيب الاستقرار والانصراف إلى التعمق في دراسة الحقوق. ويحدث ذات يوم وخلال الاحتفال بالعيد الوطني أن يلتقي لنكولن بماري تود، التي ستصبح زوجته لاحقا، وبستيفن دوغلاس. ثم يحدث خلال السهرة نفسها أن يُقتل المدعو سكراب وايت خلال مشاجرة يخوضها مع الأخوين مات وآدم كلاي. ويتنطح ج. بالمر كاس لاتهام هذين الأخوين بقتل صديقه وايت، مقدماً نفسه كشاهد عيان مؤكداً أنه شاهدهما على ضوء القمر يقترفان جريمتهما وهو على بعد نحو مئة ياردة منهما. وما يحدث هنا أيضاً أن والدة المتهمين آبيغايل رأت الجريمة بدورها، وربما رأت أيضاً ما رآه ذلك الشاهد الأول. وبات مطلوباً منها من قبل العائلة التي استهولت أن يُعدم شقيقان لجريمة واحدة، أن تشهد بأن واحداً من ولديها ارتكب جريمة القتل وحده.

لكن الجماهير المهتاجة المتجمعة خارج السجن الذي أودع فيه الشقيقان تمهيداً لإصدار الحكم المبرم في حقهما، كان لها رأي آخر: بالنسبة إليها، الشقيقان قاتلان ولذلك ينبغي معاقبتهما معا، ويا حبذا لو يُستغنى عن المحاكمة نفسها طالما أن كل شيء واضح، ويُعهد إليها بسحل «القاتلين» حتى الموت. هنا يتدخل لنكولن بشجاعة وحب للعدالة حتى في أكثر تفاصيلها إثارة للملل، ويتمكن من إقناع الجماهير المحتشدة بأن الطريق الأكثر صواباً لتحقيق العدالة في شكل منطقي وديمقراطي، تكمن في إجراء المحاكمة. ولقد اقتنعت الجماهير بكلامه مع علمها بأن هو، كمحامي، المكلف بالدفاع عن الأخوين أمام القضاء. كما أنه هو الذي تمكن من إقناع أم المتهمين بعدم تقديم شهادتها التي تحاول إنقاذ واحد منهما على حساب الثاني. وبالفعل إذ تبدأ المحاكمة سيكون همّ محامي الادعاء إقناع الأم بتحديد أي من ولديها هو القاتل، وذلك بغية الوصول إلى متهم واحد يتم إعدامه. وبالطبع ترفض الأم الاختيار بين ولديها، في وقت يندد فيه محامي الدفاع لنكولن بهذا الإجراء المفتعل المنافي للحق وللعدالة ولأي شعور إنساني. وفي الوقت نفسه يُستدعى كاس للإدلاء بشهادته، فيقول إنه شاهد ما حدث بأم عينيه مؤكداً أن مات كلاي هو الذي ارتكب الجريمة وحده. أمام هذه الشهادة التي أدلى بها كاس تحت القسم وأمام صمت الأم التي بدت مقتنعة بأن ولديها هما المجرمان، كان من شأن محامي الدفاع أن يستسلم إلى اليأس ويذعن لمجريات المحاكمة، مكتفياً من العملية كلها بإنقاذ واحد من الأخوين. لكنه لو فعل لن يكون ضميره مرتاحاً – و، خارج سياق الفيلم، لن يكون طبعاً جديراً بأن يصبح لاحقاً واحداً من أعظم الرؤساء في التاريخ الأميركي، فالفيلم، بعد كل شيء لا يروي لنا حكاية محاكمة عادية وإن كانت الجريمة عادية-، هو الذي لديه من الحدس كما أنه يعرف عائلة كلاي ويتعاطف مع الأم إلى حد يدفعه إلى العديد من الشكوك. وانطلاقاً من هنا، يستعيد المحامي الشاب تفاصيل الجريمة والظروف المحيطة بها، ثم يتمعن في العديد من التفاصيل إلى درجة تجعله على قناعة في نهاية الأمر من أن الشاهد كاس لم يكن في مقدوره وبأي حال من الأحوال أن يشاهد ما حدث على بعد مئة ياردة منه ليلة الجريمة، وذلك بكل بساطة لأن التقاويم المناخية التي درسها أفادته بأن القمر كان غائباً تلك الليلة وأن الظلام كان كثيفاً. وهكذا إذ توصل إالى ذلك اليقين، قلب لنكولن مجرى المحاكمة لينتهي به الأمر إلى إرغام كاس على الاعتراف بأن شهادته كانت كاذبة، ومن هنا إلى إقناع القضاة والمحلفين بأن كاس إنما هو القاتل الحقيقي، خطوة قطعها إيب بقوة وثقة لتنتهي المحاكمة على إدانة كاس بجريمة قتل سكراب وايت، وتبرئة الأخوين كلاي، فيما ماري ودوغلاس يهنئان المحامي الشاب على انتصاره، وينطلق هو، وفق ما يقول عنوان الفيلم في نسخته عرضه الفرنسية، «نحو مصيره» الذي سيقوده، بنفس التبصّر والحكمة والإيمان بالقانون والعدالة.

على رغم أن عدد الأفلام التي كرّستها السينما الأميركية لآبراهام لينكولن كان كبيراً وصولاً إلى فيلم ستيفن سبيلبرغ عنه قبل سنوات، فإن فيلم جون فورد (1894– 1973 ) يبقى واحداً من أفضل الأفلام التي حّققت عن رئيس أميركي، لا سيما على يد مبدع سيقول لاحقاً إنه دائماً ما آمن بقيم العدالة والديموقرطية التي حملها لنكولن وقادت خطاه حتى مصيره النهائي.