"العَولبة"!



وليس هذا نحتاً لغوياً جديداً يتمثل "العولمة" أو "العوربة"، بآفاقهما الشاسعة الرحبة، بل هو على النقيض من ذلك؛ يشيرُ إلى "الانحشار" في اللا أفق، والانزواء في مُجرَّد البَدَنْ!
وهو مفهومٌ جديدٌ، ينهضُ الآن، من مشهد "العُلبة الحجرية" التي تتعالى من طوابق وشُقق ومصعدٍ ضيق لا يتسع لعناق!
العلبة التي تطوي أطرافك مثل سمكةٍ لينةٍ مطواعة، وتضعك في سجنٍ فارهٍ اخترتَ أنتَ لون قضبانه الزاهية!
هنا تقف أمام الحياة وجهاً لوجه، في ساحةٍ صغيرةٍ للعراك. سترمي بالحياةِ من النافذة إن أنتَ انتصرتْ، وستهربُ هي ـ على كل حال -من النافذة إن هي انتصرَتْ!
علبة حجرية، لا تنمو فيها النباتات، ولا يُشاهد فيها سربٌ من النمل لصق الحائط، ولا يتنزَّل الشتاء على وجوه الناس فيها.. لا مزراب ولا قطَّةٌ ولا جارٌ يسعل أو صبيّةٌ تنشر الغسيل!
علبةٌ حجريةٌ للسكن، وعلبةٌ من الألياف الضوئية تضعها على ركبتيك، للتواصل مع الحياة في العلب الثانية. لا توجد "حارة"، الحارة يمكن صناعتها الآن بإنشاء "جروب واتساب" أو "مجموعة مغلقة" على فيسبوك، تتجول فيها وأنت في عزلتك.. هجرتك.. منفاك المصنوع على هواك.
يهربُ الفرد من إنسانيته الجمعية إلى أضيق استخدام ممكن لفكرة الاتصال، يختفي "الجار" وتختفي "النافذة"، وتنسحبُ "ساحة البيت" لصالح العواطف المبرمجة التي تختصر اللسان والشفتين والأصابع بـ"الماوس"!
إذ تكفي نقرات قليلة على "الكيبورد" لتكون قد قمت بالواجب، وأتممتَ صلة الرحم، وتقوم الرسالة الخلوية مكان القبلات وأحضان العيد!
يختفي "الزقاق"؛ المكان الأثير لترصّد ابنة الجيران، وتحلّ الجدران الملتصقة بسرير الكائن مكان يد الأم التي كانت تربت على كتف النوم!
يصير "الساكن" جزءاً من الأثاث، وتهربُ الضحكةُ الواسعةُ لصالح ضحكٍ الكتروني تبثه "كائنات الديجيتال"، وتختفي الجدران المكتظة باللوحات والبراويز لصالح "صور مختارة" تُعلّقُ على ناصية "الهوم بيج" أو "الديسك توب"!
يتعولب الإنسان في مساحةٍ مجردةٍ من الذاكرة، تستهين بحماقات "العائلة" وترهات "الطفولة" ونزق الأصدقاء وشقائهم، وشقاواتهم، .. مساحة تمجّد اليد التي تسارعُ لاغلاق النافذة إن انسرب منها صوتُ الحياة المارق!
في علبةٍ من الإسمنت المُسلّح لا تنشطُ الحياةُ بقدر ما تتلوى على ذاتها، وتقرضُ أطرافها، وتتغذى على غياب الآخرين.
بالتدريج تموت "فكرة العائلة"، وكل فردٍ يُلقى للحياة ليتلقّاها وحده، وعليه أن يخوض معاركه الضارية معها داخل علبته؛ حيث لا يصل صراخه إلى أحد، ولا تلمس ذراعه -إن امتدت- غير قفل العلبة المجاورة!
لا أحد يُصغي لأكثر من انصفاق الباب خلفه، مُتفلّتاً كأنما بأطرافه من فم وحشٍ يعضُّ عمره الطريّ.
وهكذا.. هكذا تتكون العائلة الجديدة من "عُلب" لها "أرقامها السريّة" التي لا تنفتحُ بضحكةٍ أو لمسةٍ أو ضمة ورد عند الباب!
وهكذا نهربُ منّا، همّنا أن ننجو من ظِلّنا اللحوح، ومن المرآة، ومن الشَراكة، ومن الاقتراحات، ومن أن نسمع أي "فكرةٍ أخرى"!
يندسُّ كل واحدٍ في علبته نائيا بنفسه عن فكرة "القوم"، مُتخلّصاً من شروطها العاطفية، وناذراً نفسَه لنفسِهِ المجيدة المتعالية!
كأنما لم يعد لدينا ما نعطيه، وكأنما -أيضاً- نجحنا ببراعةٍ في قتل "فكرة الأهل"؛ ليصعد كلٌ منّا واحداً ووحيداً الى قدره؛ لا يحملُ غير اسمه الذي من مقطعٍ واحد وكفّه المُعقّمة التي لم تُصافح أحداً ولم تُلوّح قبل ذلك لأحد!