ترشيق القطاع العام




نقلت الغد أمس عن وزير الدولة لشؤون الإعلام الناطق الرسمي باسم الحكومة قوله: "نحن متجهون استراتيجياً لننتقل من مفهوم الدولة الريعية لأننا دولة قليلة الموارد الطبيعية وموردنا الأساسي هو الإنسان ونريد أن نصل إلى مرحلة الاعتماد على الذات"، وأعتقد أن هذا التصريح من أهم التصاريح الصادرة عن الحكومات في مجال الإصلاح الاقتصادي، ذلك أنه يشكل اعترافاً حكومياً بأن الأردن دولة ريعية، وإن الإصلاح الاقتصادي من ناحية استراتيجية يتمثل في الانتقال إلى الاعتماد على الذات، وبانتظار الانتقال من الكلام إلى الفعل فإن الاعتراف الواضح بالمشكلة أهم أساس لحلها.
القطاع العام في الأردن يزيد على ما نسبته 30 % من القوى العاملة الأردنية وهي من النسب العالية عالمياً حيث تصل في أميركا مثلا الى 17 %، وأهم سبب لذلك أن الدولة استخدمت الوظيفة العامة كأحد وسائل الريع، فتراكمت أعداد الموظفين بعيداً عن العدد اللازم لموظفي القطاع العام وكفاءاتهم، وساعد في ذلك تكريس مفهوم أن الوظيفة العامة هي مناط الأمن والأمان، فصار سقف طموح الشباب مكتبٌ ولقب، فقتل هذا حس المبادرة لدى قطاع كبير من الشباب، وانتهى الأمر بقطاع عام متضخم وبإنتاجية متدنية للموظف العام قد لا تزيد على نصف ساعة يومياً بأحسن الأحوال.
للتصدي لهذه المشكلة أعلنت الحكومة أمس عن تعديل جديد لنظام الخدمة المدنية حيث قرر التعديل -الذي ينتظر الإجراءات الدستورية لإقراره-، أنه سيتم تسريح الموظف العام الذي يحصل على تقييم ضعيف لسنتين متتاليتين من الخدمة، على أن يكون التقييم لمجموع الموظفين بما يحقق مفهوم "منحنى التوزيع الطبيعي"، الأمر الذي يشير إلى أن تقييم الموظفين ورؤسائهم لأنفسهم دأب على "تفوق" أغلب موظفي القطاع العام – ويؤيد هذا تصريح أحد الوزراء أن 95 % من الموظفين يحصلون على تقدير ممتاز أو جيد جداً- وهو ما يشير إلى فشل أسلوب التقييم وإجراءاته.
تقييم الموظف العام يجب ان يأتي أولاً من متلقي الخدمة وهم المواطنون الذين يراجعونه يومياً، وهذا سيحفز الموظف الجيد ويكشف الموظف السلبي الضعيف، فإن ترك التقييم للموظفين أنفسهم أو لرؤسائهم في بيئة تعتبر الوظيفة "لقمة عيشٍ ورزق"، وبقاعدة "قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق" لن يكون فاعلاً في التقييم الحقيقي وزيادة كفاءة القطاع العام. يضاف إلى ذلك أن مبدأ الثواب والعقاب يجب أن تصاحبه برامج تدريبية للموظف على متطلبات الوظيفة ووسائل التعامل مع الجمهور، إضافة إلى تكريس ثقافة أن الموظف العام هو "خادم عام" يطبق القانون، وليس له أن يفسر القانون أو أن يتعالى عليه، ولكن الأهم من كل ذلك هو تغيير ثقافة الأمان في الوظيفة العامة وإطلاق طاقات الشباب نحو الريادة والعمل الخاص، وخلق بيئة تشريعية للقطاع الخاص ليفتح مزيداً من فرص العمل للشباب، فإن اقتصاد الأردن يقوم على نمو القطاع الخاص في تشغيل التجارة والصناعة والزراعة. إن سبعين عاماً من تدخل الدولة في سوق العمل أثبت فشله في المشاركة كصاحب عمل، ولهذا فعلى الدولة أن تقوم بما تختص به وهو تأمين بيئة تشريعية وحوافز لتنشيط القطاع الخاص ومنع الاحتكار وتركيز الثروة.
دعونا نواجه الحقيقة؛ تستطيع الدولة أن تسيّر أمورها بنصف عدد موظفي القطاع العام الحالي على أكثر تقدير، ولكنها في ذات الوقت غير قادرة لا سياسياً ولا اقتصادياً على تسريح النصف الآخر من موظفي القطاع العام، وإن إجراءات كالتي اقترحتها الحكومة بموجب نظام الخدمة المدنية لن تحل المشكلة، فكم سنة سننتظر حتى تسرّح من القطاع العام الموظفين غير الكفؤين. أعتقد أن سبيل حل المشكلة هو في وقف التعيين وبذات الوقت خلق بيئة تشريعية محفزة للقطاع الخاص، لكي يخلق فرص عمل جديدة، والأهم من ذلك تغيير هيكلية النظام التعليمي في الأردن خلال سنة واحدة على الأكثر للتوجه للتعليم المهني ووقف تدفق خريجي حملة شهادات البطالة عن العمل، قد تبدو مثل هذه الاقتراحات غير واقعية ولكن من غير الواقعية أيضاً الاستمرار في معالجة الهم الاقتصادي وكأن الحكومة تملك كل الوقت لاقتراح الحلول السلحفائية. أيها القوم الهَم الاقتصادي يوجب التعامل معه بما يتطلبه الأمر من حسّ الطوارئ وضرورة التدخل السريع الفاعل.