الاستثمار وحديث السراب
يبدو أننا وفي غمرة حماسنا للاستثمار، وتشجيعه وجلبه إلى بلدنا، قد نسينا أهم عنصر من عناصر الاستثمار، وهو بناء الإنسان الذي كان أغلى ما نملك كما قال الراحل العظيم الحسين بن طلال طيب االله ثراه. لقد كان الإنسان الأردني، المؤهل والمدرب، والمزود بمنظومة كاملة من القيم الأخلاقية والمهنية، هو العنصر الأول من عناصر ثروتنا الوطنية، التي بنت أولاً منظومة تعليمية كنا نفاخر بها، وصارت نموذجاً يقتدى في المنطقة، بل لقد نافست على المواقع الأولى على المستوى العالمي، مما جعل المعلم الأردني عنصراً مطلوباً تسعى إلى استقطابه الكثير من الدول، لذلك يصح القول بأننا نحن الذين بنينا النظم التعليمية في الكثير من دول المنطقة. ومثلما بنى الإنسان الأردني، المؤهل والمدرب والمحصن بالمنظومة الأخلاقية نظامنا التعليمي، الذي صار نموذجاً ومثالاً، فإن هذا الإنسان هو الذي بنى نظامنا الصحي الذي صار هو الآخر مضرب المثل، مثلما صار مصدراً من مصادر ثروتنا الوطنية مثل التعليم، وصار الأطباء والمعلمين الأردنيون من أهم مصادر تزويد الموازنة العامة للدولة الأردنية بمواردها، مما يؤكد مقولة أن الإنسان هو أغلى ما نملك، وأنه رأس مالنا الحقيقي، فهذا الإنسان هو أيضاً الذي بنى الإدارة العامة الأردنية، التي كانت تتصف بالإنتاجية والحاكمية وبالنزاهة، وبالشفافية والمحكومة بمبدأ تكافؤ الفرص، فصارت هي الأخرى نموذجاً يحتذى، وصار الإداري الأردني مطلوب مثله مثل المعلم والطبيب الأردنيين، ولذلك يصح القول أنه مثلما بنى الإنسان الأردني النظم التعليمية والصحية في الكثير من دول المنطقة، فإنه أيضاً ساهم في بناء النظم الإدارية لهذه الدول، وهكذا صار الإداري الأردني مصدراً من مصادر الدخل الوطني. ومثل المعلمين والاطباء والإداريين الاردنيين، كان العمال الأردنيون المهرة يغطون حاجة السوق الوطني، ثم يلبون حاجة الكثير من أسواق المنطقة والعالم، كان ذلك قبل أن تظلنا أزمان صارت العمالة الوافدة تطرد العمالة الأردنية حتى من سوق العمل الأردني، فما السر وراء هذا الإنقلاب، بل هذا الخراب الذي صرنا نشكو منه، ليس في مجال العمالة اليدوية، فقد امتدت الشكوى إلى التعليم ومخرجاته والطب وممارساته والإدارة الأردنية التي أصابها الكثير من مظاهر الوهن والخراب الذي يتراوح بين الروتين وتفشي الرشوة وسائر مظاهر الفساد؟ إن الإجابة على هذا السؤال تكمن بضرورة اعترافنا بأننا أهملنا مؤسسات بناء الإنسان، وأدوات هذا البناء، وبخاصة على الصعيد القيمي. وأول هذا الذي أهملناه مؤسسة الأسرة، ودورها في تنشئة الإنسان، وبناء منظومته القيمية، فجل أطفال الأردن ينشأون ومنذ سنوات طويلة على أيدي الخادمات نشأة ليس فيها أي قيمة من قيم الإنتاج والعطاء بل القيم الأخلاقية ومنها القيم التي تقدس العمل وأخلاقياته.