«هوجوكي» لكامو شوميي: نشيد للحياة من راهب ياباني


 

 

نعرف الكثير، ولسنا في حاجة إلى الإسهاب كل مرة، حول حدود معرفة القارئ العربي، (بل حتى غيره من قراء أمم كثيرة في العالم) – بل نقصان معرفته – بكل ما يمت الى الآداب غير الأوروبية وغير الأميركية بصلة. فبالكاد يعرف هذا القارئ شيئاً حول الآداب الإفريقية والآسيوية ولا سيما منها الهندية والصينية واليابانية. أهل النخبة قد يكونون اطلعوا على عمل من هنا أو آخر من هناك، وعلى هذا الاسم أو ذاك. بل إن ثمة ترجمات بدأت تظهر في السنوات الأخيرة لعدد من أعمال حديثة مشهورة في لغات تلك الأمم، بيد أن الكلاسيكيات تبقى غائبة، غائبة من ناحية المقروئية وحتى من ناحية تدريسها في الجامعات. ومع هذا لا بد من أن نقول ونعيد أن آداب تلك الأمم تمتلئ بأعمال رائعة وغالباً ما تكون إنسانية وأحياناً على علاقة مع الطبيعة قد يكتشف الباحثون المدققون «بيئويتها» إذا شاءوا مع حد أدنى من الجهد. وفي هذه السياقات جميعاً يمكننا، هنا بالذات أن نتوقف عند نص بالغ الدلالة والجمال من نصوص الأدب الكلاسيكي قد يكون من نافل القول ان قراءته تبدو ممتعة ومفيدة لكل ذي فضول وحب للمعرفة.

 

 

> انه نص قصير للغاية، بالمقارنة بما يماثله من نصوص، وحتى بالمقارنة بما قد يوحي به اسمه للوهلة الأولى، لكن هذا النص الذي لا يتجاوز طوله الأربعين صفحة في لغته الأصلية على الأقل، كان له من التأثير في الأدب والفكر اليابانيين، أكثر مما كان لأي نص آخر. ذلك انه نص يسبر في العمق لا في الطول. وذلك، أيضاً، لأنه نص تأملي كتبه راهب في صومعته، من دون ان ينسى ولو للحظة انه في نهاية أمره انسان، يكتب ليعبر عن نفسه، وربما أيضاً يكتب لنفسه، من دون ان يتطلع الى ان يقرأ الآخرون ما يكتبه.

 

 

> النص عنوانه في اليابانية «هوجوكي». ومقطع «جو» الذي يتوسط الكلمة هو قياس ياباني قديم لمساحة الأرض ويساوي نحو ثلاثة أمتار في ثلاثة، وهو القياس المعهود الذي كانت عليه صوامع الرهبان اليابانية في ذلك الحين. وذلك الحين هو بدايات القرن الثالث عشر الميلادي أو العام الثاني من عصر «كنرياكو» احد عصور التاريخ الياباني. أما العنوان فيعني ما يماثل «ذكريات من صومعة تبلغ مساحتها عشرة أمتار مربعة». وهي، بالتحديد، الصومعة التي عاش فيها الراهب البوذي الياباني كامو شوميي، وكتب نصه التأمل المؤسس ذاك، بعد ان ترك البلاط الأمبراطوري حيث تربى وكان يعيش، مفضلاً عليه حياة العزلة والتأمل.

 

 

> «هوجوكي» هو، اذاً، نص تأملي كتبه ذلك الراهب، ليصف فيه انفكاكه عن العالم المادي وعثوره على سلام الروح الداخلي في ذلك المكان الذي آثر ان ينعزل فيه بعيداً عن ملذات العالم الدنيوي التي كان يتيحها له عيشه في البلاط الأمبراطوري، وتقول لنا الحكاية على أي حال ان الكاتب كان في الأصل يعيش في البلاط وله هناك مكانة كبيرة، لكنه ذات يوم آثر الابتعاد باحثاً عن ذاته وسط الطبيعة والعزلة المطلقة، كما سيفعل بعده بقرون عدد من كبار شعراء ومفكري العالم الذين مهّدوا للحركات الهبية على سبيل المثال ومن بينهم إيمرسون وثورو الأميركيان. ومن ناحية أخرى يقول دارسو هذا النص ان الأساس فيه هو لغته الجميلة، اللغة التي تصل ما بين الطبيعة والمشاعر الإنسانية العميقة التي كان يعبر عنها كامو شوميي، وهو نفسه الذي عدا عن ذلك النص السردي التأملي الذي كتب نثراً، اشتهر بأشعاره العميقة التأملية التي ربما كانت أول ما عرفه الشعر الياباني من تعبير عن الإنسان في علاقته بالوجود والطبيعة.

 

 

> كامو شوميي، كان في الأصل ابناً لأمير كان في الوقت نفسه واحداً من كبار رهبان واحد من المعابد الشنطوية البوذية اليابانية. وكان الأمير يخدم في معبد كامو الذي سمي الولد باسمه، لكنه مات فيما كان الابن طفلاً فألحق هذا الأخير، يتيماً، بالبلاط الأمبراطوري في كيوتو حيث نال تربية معتادة من نوع تلك التي كان ينالها أبناء الرهبان من طبقة الأمراء، بمعنى انها كانت تربية دينية وعلمية وأدبية تركز في شكل أساسي على القيم الأخلاقية كما على اللغة. ولكن كامو حين تجاوز الخمسين من عمره وبعد ان عاش مرفهاً سنوات طويلة في البلاط، قرر ذات يوم ان الوقت حان لكي يهجر ذلك كله، وينزوي في مكان يتأمل فيه. وهو بالفعل انصرف الى صومعة، هي عبارة عن كوخ صغير بناه بنفسه في الجبال المحيطة بمدينة كيوتو - العاصمة اليابانية في ذلك الحين -، وعاش في ذلك الكوخ. وكان نص «هوجوكي» أول ما كتبه هناك، راغباً منه في ان يكون نصاً فلسفياً يتحدث عن الحياة وقصرها في الزمن وآلامها، وعن الأخطار التي تحيط ببني البشر في كل لحظة. والكاتب، لكي يعطي امثلة حية، يعرفها الناس جميعاً، عن تلك الأخطار، يورد في نصه أخبار كوارث عاشها الناس هناك، ولا تزال ذكراها محفورة في أعماقهم: الحريق الذي أتى على مدينة كيوتو عام 1177، والإعصار الذي عصف بتلك المدينة عام 1180، ما أدى الى نقل العاصمة من كيوتو الى فوكووارا في ذلك العام نفسه. وإثر ذلك يصف كامو المجاعة التي حلت بالبلاد والأوبئة التي تبعتها، ولا سيما الطاعون الذي قضى على الألوف من السكان. وأخيراً يصل الى وصف الزلزال الرهيب الذي ضرب المنطقة نفسها في عام 1185. ان هذه الأحداث العاصفة والمميتة التي حلت بمنطقة واحدة من مناطق اليابان في وقت واحد تقريباً، يشكّل وصفها القسم الأول من هذا الكتاب. ومن الواضح ان كامو لم يصف هذه الأحداث، إلا لينطلق منها الى القسم الثاني من كتابه، وهو القسم الذي يبدو أكثر أهمية على أيّ حال، وذلك لأن الكاتب يستخلص فيه دروس القسم الأول، ولا سيما من خلال ذلك التناقض الكبير بين روحية كل من القسمين. فلئن كانت الأخطار والكوارث تهيمن على القسم الأول، فإن الهدوء والدعة يهيمنان على القسم الثاني، لأن الكاتب يروح فيه واصفاً الحياة التي يعيشها هو في الكوخ المعزول وسط جمال الطبيعة وهدوء عناصرها، بل أكثر من هذا كما نكتشف تدريجاً: في التحام تام مع الطبيعة. فالإنسان الذي يجد نفسه منجرفاً في حياة مادية، حسبه ان يخرج من تلك الحياة، ويُقدم على ذلك الالتحام بالطبيعة لكي يجد خلاصه كما فعل هو. صحيح ان كامو لا يزعم انه انفصل كلياً عن ماضيه، فهو في تلك الحياة التي ينعم بهدوئها ويصف جمالها ودعتها، يظل يعيش تحت وطأة ذكريات الأيام والأحداث الحزينة. ولكن أفلا يُعرف الشيء بنقيضه؟ بلى، لأنك ان لم تذق طعم الحزن، لن تتمكن من معرفة لذة الفرح. ومن هنا يشكر كامو الرب، لأنه جعله يعيش الحزن ثم الفرح، الكارثة ثم الهدوء. وهذا ما يجعل من كتابه نصاً إنسانياً عميقاً وواقعياً، لأن الكاتب لا يحاول هنا أن يدعو الناس جميعاً إلى الاقتداء به في وحدته وعزلته والتحامه بالطبيعة، لأنه يعرف أن ذلك ليس واقعياً.

 

 

> ما يريده كامو في هذا الكتاب إنما هو التأكيد على أن الحياة يمكن أن تتألف من كل شيء: من الأفراح ومن الأحزان، من السعادة والتعاسة. المهم هو كيف نتعامل نحن، معشر البشر معها. ومن هنا اعتبر الكتاب دائماً كتاباً في السيكولوجية البشرية، لا دعوة الى الهروب. فهنا يعري الكاتب، وفق قول واحد من الذين كتبوا عنه ووصفوا كتابه، «يعري فؤاده، ويصف نفسه وحياته» في نص هو نشيد شاعريّ للحياة ودعوة الى التماشي مع ما تعطينا اياه الحياة، فإذا كانت الطبيعة هنا، محيطة بذلك الكوخ، فإنها هنا لكي يعيش المرء وسطها ويتأمل، في محاولة منه، ليس لنسيان أحزان الماضي، بل لإدراك قيمة تلك الأحزان في وسمه بالطابع الإنساني. انه الخلاص، ليس عن طريق الهروب، بل عن طريق التأقلم مع الأحداث ومعرفة كيفية الرد عليها.

 

 

> الواقع ان هذا البعد هو ما أعطى ذلك الكتاب طابعه، وجعله - كما ستكون حال «الأمير الصغير» لاحقاً - واحداً من النصوص التي يقرأها اليابانيون ويؤمنون، بفضلها بالحياة على رغم كل شيء. ولقد ترجم الـ «هوجوكي» الى كثير من اللغات، وتأثر به عدد كبير من الكتّاب في شتى بقاع الأرض.