إعمار العراق: خطوة أولى في رحلة المليون ميل
لو لم يكن هناك رهان دولي وعربي على هذه الدولة لما تبلورت فكرة مؤتمر الكويت الذي أراد أن يدعمها، ولجاءت وعود التمويل بأقلّ من الحصيلة المتواضعة. وقد كان المؤتمر اختباراً مباشراً، لا للعراق والعراقيين فحسب، بل اختباراً مسبقاً لكل الدول العربية التي لا تزال مصطرعة ولم تتح الفرص بعد للبحث جدياً في إعادة إعمارها. ففي الأعوام الأخيرة، وبسبب تكاثر الأزمات وتزامنها، تراجعت حماسة الدول المانحة، وصارت الأمم المتحدة تبذل أقصى الجهد وبالكاد تحصّل ما يمكّنها من القيام بأبسط الواجبات الإنسانية مثل إيواء النازحين واللاجئين وإطعامهم والاهتمام بأوضاعهم الصحية والاجتماعية عدا واجبات مهمة أخرى كرعاية الأطفال وتعليمهم. وبطبيعة الحال، فإن عدم انبثاق آفاق سياسية واعدة من توالي الحروب والمآسي واحتمالات تجدّدها حيث يُعتقد أنها ولّت، لا يشجع الدول المانحة على «المغامرة» بأموالها.
لا شك في أن النصر على تنظيم «داعش» كان عنصراً مساعداً للعراق كي يطالب بدعمه أو بمكافأته على هزيمته الإرهاب، ولا شك أيضاً في أن الدور المركزي للجيش العراقي والقطاعات العسكرية والأمنية المختلفة في ذلك النصر قد بنى ثقةً دوليةً ما بحكومة بغداد ورئيسها حيدر العبادي، غير أن هذه إنجازات ينبغي البناء عليها في الاتجاه الصحيح لإقناع العالم بأن العراق استوعب دروس خمسة عشر عاماً للتخلّص من الفوضى والفئوية والثأرية في إدارة شؤونه. وعندما تكون دولةٌ ما بحاجة ماسّة إلى مساهمات مالية خارجية فمن البدهي أن تعرف كيف ينظر العالم إليها وأي صورة استطاعت أن تكوّنها لنفسها وما المطلوب منها لتحصل على ما تحتاج إليه أو تتوقّعه؟
أيّاً تكن الصدقية الشخصية التي يتمتّع بها العبادي، ومدى الاختلاف بينه وبين سيّئ الذكر سلفه، إلا أنه لم يستطع تبديد وقائع سلبيّة تفرمل اندفاع الخارج نحو اعتبار عراق الدولة على طريق التعافي من أمراض تواصل إضعافه، وهي: سرطان التغلغل الإيراني، وانتشار الميليشيات المذهبية، واستشراء الفساد الإداري والمالي. فكلّها أمراض معتملة ومتداخلة، وليس في الإشارة إليها افتراء أو تحامل على الحُكم، بل تقرير لواقع لا يمكن تجاهله، يتساوى في ذلك أن يبدي العراقيون «تصالحاً» أو «تعايشاً» معها - بصدقٍ أو بتمويه، إذ لا يمكنهم حمل العالم على القبول بما يقبلونه هم ويسكتون عنه من ظهور منفّر ومستفزّ للجنرال قاسم سليماني عند المحطات الأمنية والسياسية كلها، والأكيد أنهم يعلمون أن العالم، وإن لم يكن كأميركا وإسرائيل في حال مواجهة مع إيران، لا يقرّ تدخّلاتها بأسلوب «تصدير الثورة» أو بثقافة الشحن المذهبي، بل يعتبرها استثماراً في إفقار مستدام للعراق وعائقاً أمام قيام دولته ونظامه.
في المقابل، ربما كان هناك تفهّم خارجي موقّت لظهور «الحشد الشعبي» كردّ فعل على ظهور «داعش»، لكن التشريع المستهجَن لـ «الحشد» وإنفاق الدولة عليه من الموازنة العامة وتغطيتها القانونية لانتهاكاته لم تقنع أحداً بأن «الحشد» خاضع لشرعية الدولة وليس مجرّد وجه آخر للهيمنة الإيرانية. ولعل التلكؤ في خطط دمجه وغموض تجريده من السلاح الثقيل واستعداده للتحوّل إلى مكوّنٍ سياسي (على غرار «حزب الله» في لبنان) تشهد على سعيه إلى التهرّب من سيطرة الدولة وإلى استمراره ككيانٍ موازٍ خارج إشراف القوات المسلحة الشرعية، فهذه اختطّت لها إعادة التأهيل الأميركية نهجاً مختلفاً مكّنها من محاربة الإرهاب وسيمكّنها من مكافحة أي محاولة لعودته بل يُفترض أن تكون عماد الدفاع عن الدولة.
قام الخبراء العراقيون بما عليهم وبما طُلب منهم لإعداد ملفات مؤتمر الكويت، وقبل ذلك لم يكن مستغرباً أن يتحدّث العبادي في منتدى دافوس عن الحاجة إلى مئة بليون دولار، ثم كان طبيعياً أن تنخفض التوقعات إلى ثمانية وثمانين بليوناً مع اقتراب الدول والشركات والمنظمات من التصريح بمساهماتها. ولدى رصد الأرقام التي أفاضت بها المصادر العراقية للحاجات الفعلية للقطاعات كافة تبيّن أن التقديرات تفوق المئة بليون في المديين القصير والمتوسط، لكن الأرقام المتداولة في أروقة المؤتمر للمنح والاستثمارات والقروض ظلّت دون المستوى. لذلك، أسباب أهمها أن الجانب العراقي لم يأتِ باستراتيجية واضحة ومحدّدة، ولعل الحكومة أرادت ذلك ولم تستطعه. لم يكن هناك ما يمنع عرض صورة شاملة لحاجات البلد، لكن منطق ظروف ما بعد الحرب على «داعش» وهاجس توطيد الاستقرار كانا يقتضيان حصر المطالب العاجلة بإعادة إعمار المدن والبلدات المدمّرة وتأهيل البنية التحتية فيها لإعادة إسكان مليونين ونيّف من النازحين وتحريك عجلة الاقتصاد في مناطقهم. وتُظهر حصيلة التعهّدات أن الدول المانحة أخذت عملياً في اعتبارها الحاجة الملحّة لتنفيذ هذه المهمّات، وقد قُدّرت بـ 22 بليون دولار.
لا تفسير للخلل الاستراتيجي و «المطالب المبعثرة»، كما وصفها القطب السياسي أياد علاوي، سوى أن المنطق الفئوي لعب دوراً في تشويش الرؤية وألزم حكومة بغداد بإرضاء أطراف الحكم كافة لئلا تتسبّب مواقفها وتهجّماتها بإجهاض مؤتمر الكويت قبل انعقاده، فتلك الأطراف اعتبرت المؤتمر فرصة لانتزاع حصص أو مناسبة لتوزّع مغانم وفقاً للمناطق ومراكز النفوذ، خصوصاً أن الموسم موسم انتخابات. بهذا المعنى، لم يكن يُراد، بل لم يكن ممكناً، حصر الأولوية رسمياً بالمناطق المنكوبة، إلا أن التشوّش الناجم عن تكالب تلك الأطراف أعاد دفع ملف الفساد إلى الواجهة، فهو لم يكن ليغيب عن أذهان ممثلي الدول المانحة بسبب شهرته الخارقة عالمياً غير أنهم لم يتسرّعوا في إثارته، ربما تشجيعاً لتعهّدات العبادي جعل مكافحة الفساد بين أهمّ أولوياته. ولا يكفي انكشاف النيات لكي ترتدع ماكينة الفساد، فلا شيء يمنعها من محاولة قضم ما أمكنها من «حصيلة الكويت» على محدوديتها.
بدا حضور إيران في الكويت أقرب إلى التطفّل على أمر لا يعنيها، فالمجتمعون يبحثون في ترميم ما خرّبته، ولو عاد الأمر إليها لفضّلت أن تبقى المدن المدمّرة على حالها وأن يبقى أهلها مشرّدين في مخيمات. ولعل أفضل ما فعلته كان تعهّدها بـ «صفر دولار» لأن جميع المساهمات المالية ترمي إلى تعزيز عمل الدولة العراقية من أجل الاستقرار، أما إيران فجهدت وتجهد لترسيخ العراق بيدقاً في حروبها، ففيما كان العبادي وفريقه يكافحان في أروقة مؤتمر الكويت سعياً إلى موارد للسلم الأهلي كان أمثال قيس الخزعلي يبحثون عن مغامرات هنا وهناك خدمةً للمشروع الإيراني.
من المؤكّد أن الحكومة العراقية تعلّمت الكثير من تجربة الكويت، فالحاجة إلى المساعدات تتطلّب التأهل للحصول عليها، سواء بالتشريعات المناسبة أو بتكوين البيئة الاستثمارية لملاقاة مجتمع دولي لديه رغبة حقيقية واقتناعاً مبدئياً بضرورة دعم العراق، ليس فقط لأنه بلد عنده ثروات وهناك مستقبل للاستثمار فيه، بل لأن استقراره بعد محنته مع «داعش» يساهم في الاستقرار الإقليمي. ولا شك في أن الحكومة ستتعلّم أكثر من مفاوضات التعاقد لتنفيذ التعهّدات، فأي طرف سيبحث حتماً عن العناصر التي تعزّز ثقته في الطرف الذي سيتصرف بالأموال. الكرة، إذاً، في ملعب العراقيين.