مذبحة فلوريدا: هل تريح ترامب... ولو موقتا ً؟
قد يكون أكثر المستفيدين من حادثة القتل الجماعي المريعة التي جرت في مدرسة ثانوية بولاية فلوريدا يوم الأربعاء الماضي الرئيس دونالد ترامب. المجزرة البشعة التي ارتكبها طالب سابق في المدرسة معروف بميوله العنيفة وتهديداته السابقة أودت بحياة سبعة عشر طالباً بينهم طلاب مدرسون وعابرو سبيل. ولكنها هيمنت على وسائل الإعلام الأميركية وحولتها من التركيز على آخر فضيحة كبرى أضيفت إلى فضائح الرئيس ترامب وحاشيته. الفضيحة هي أن سكرتير قسم الموظفين في البيت الأبيض، روب بورتر، يعمل في الجناح الغربي من دون ترخيص أمني، وقد اتهمته زوجتان سابقتان له بالإساءة اللفظية والجسدية لهما. وبدلاً من أن يدين الرئيس ترامب ورئيس أركانه جون كيلي سلوك الموظف الذي كان يطلع على كلّ الوثائق المصنفة والسرية، امتدحه الرجلان، بل أن ترامب استغل المناسبة للتعريض بحملة «وأنا_أيضاً» النسوية التي تدين العنف والاغتصاب والإساءة الجنسية.
ولكن المسألة لم تتوقف هنا، بل كرّت حبات المسبحة. وذكرت شبكة إن بي سي الإخبارية أنّ 130 موظفاً في المكتب التنفيذي للرئيس في البيت الأبيض يعملون من دون ترخيص أمني دائم، بمن في ذلك جاريد كوشنر، صهر الرئيس ومستشاره الأول ومسؤول عدة ملفات داخلية وخارجية بينها الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
لقد وصلت هذه الإدارة، وأوصلت معها المؤسسة الرئاسية، إلى مستوى بات معه كلّ شيء متوقّعاً وغير مستغرب مهما بلغ مستوى انحطاطه. لذلك لم تبدُ غريبة تغريدة الرئيس ترامب التي دافع فيها عن بورتر، بقوله إن «حياة الناس باتت تُحطّم وتُدمَّر بمجرد ادعاءات. بعضها صحيح وبعضها كاذب، وبعضها قديم وبعضها جديد، وليس ثمّة من يعيد الاعتبار لشخص اتهم زوراً – لقد انتهت الحياة والوظيفية- ألم يعد هناك أي شيء من شبيه الإجراءات القانونية الواجبة؟». ونحن نعرف أن ترامب نفسه متهم بالتحرش والإساءة الجنسيين وأن ثمّة اثنتي عشرة امرأة على الأقل يتهمنه بذلك.
العاصفة القوية التي هبّت ضدّ ترامب وإدارته ورئيس أركانه ومساعديه انحرفت بسبب انشغال الإعلام والكونغرس والرأي العام بمجزرة المدرسة في فلوريدا، فارتاح ترامب قليلاً.
المشتبه به، نيكولاس كروز، فتى في التاسعة عشرة، متعاطف مع القوميين اليمينيين ودعاة تفوق البيض، وفقاً لرابطة مكافحة التشهير الأميركية. وهو لم يكن يخفي مشاعره ولا مشاريعه، فقد نشر على وسائط التواصل الاجتماعي نيّته إطلاق النار من سلاح آر 15 الفتاك الذي يملكه على أفرد الشرطة والمتظاهرين المناهضين للفاشية، «لأنهم يستحقون الانتقام». وقبل خمسة أشهر فقط، قال إنه يتشوّق لإطلاق النار «بشكل محترف» على إحدى المدارس.
المجزرة الجديدة تأتي ولمّا ينسَ الأميركيون بعد المجزرتين اللتين سبقتاها في الأشهر الأخيرة: مجزرة لاس فيغاس التي قتل فيه مسلح 58 شخصاً، ومجزرة الكنيسة في ولاية تكساس التي أودت بحياة 26 شخصاً، بينهم ثمانية من عائلة واحدة.
الأميركيون الذين لا يصعب جرّ انتباههم من قضية إلى أخرى، نسوا فضيحة البيت البيض، مؤقتاً على الأقل، وعادوا إلى سجالهم القديم حول تغيير قوانين بيع وحمل السلاح.
التعديل الثاني في الدستور الأميركي عبارة عن جملة قصيرة، تقول: «حيث أن وجود ميليشيا حسنة التنظيم ضروري لأمن أية ولاية حرة، لا يجوز التعرض لحق الناس في اقتناء أسلحة وحملها». معروف عن الدستور الأميركي أنه موجز جداً، وهو أقصر دستور معمول به في العالم، ويلقي على عاتق المحكمة العليا تفسير نصوص الدستور. وحتى الآن ثمّة خلاف مقيم بين الأميركيين، مشرِّعين وقانونيين وعامة، حول تفسير التعديل الثاني. على أن الرأي السائد هو الحقّ أساساً في شراء السلاح واقتنائه وحمله. وقد ظهرت في السنوات الأخيرة نظرية «الرجل الجيد مع بندقية». ملخص هذه النظرية أن رجلاً جيداً مسلحاً يمكنه أن يوقف رجلاً سيئاً مسلحاً وقت ارتكابه جريمة. بهذا المنطق يدافع مؤيدو حمل السلاح ولوبي تجار وحملة السلاح عن حقّ الفرد في حمل السلاح في أي مكان. وهم لا يفكرون في أن الأولى منع الرجال السيئين من حمل السلاح أساساً، وعندها تنتفي الحاجة إلى رجال جيدين مسلحين خارج الشرطة.
الحقيقة أن ولع الأمة الأميركية باقتناء السلاح جنباً إلى جنب مع تاريخ من الغطرسة والذكورة، أنتجت ثقافة يعتقد فيها الملايين من الرجال البيض (الأصغر سناً) الآن أنهم يستطيعون في أي وقت أن يكونوا الشيء الوحيد الذي يقف بين الخير والشر. وسيوفر بحث سريع على يوتيوب مقاطع فيديو لا تعد ولا تحصى من هؤلاء الأبطال الخارقين الذين يتجولون في شوارع المدينة مع بنادق قوية على الشاشة، فيما يشبه التحدي لرجال إنفاذ القانون.
لوبي السلاح يدفع مئات ملايين الدولارات للمشرعين الأميركيين وبعض الإعلاميين إلى الوقوف في وجه أي محاولة للحدّ من بيع السلاح لكلّ من هبّ ودبّ. ولا أمل قريباً في وضع نهاية لمسلسل القتل الجماعي في المدارس والكنائس والجوامع وأماكن العمل واللهو.
سبع عشرة ضحية قضوا في المجزرة الأخيرة، بينهم فتيان وفتيات بعمر الورود كان آباؤهم ينتظرون تخرّجهم من المدرسة الثانوية للالتحاق بالجامعة أو سوق العمل أو العشق. القاتل والضحايا قدموا لترامب فترة نقاهة من الحملة على فضائحه. وهو استفاد منها فوراً، ولأول مرة تلا على التلفزيون خطاباً كتبه له آخرون ولم يخرج فيه عن النص ولا مرة واحدة. خطاب تصالحي، مرن، متوازن، لا يشبهه في شيء.
بيد أن تلك حالة مؤقتة، وسيعود الأميركيون والإعلام والكونغرس والمحقق الخاص روب موللر لملاحقة الرجل الذي جاء إلى البيت البيض بغلطة تاريخية ارتكبتها نفس الأمة التي انتخبت باراك أوباما قبل ثماني سنوات. ولن يكون ثمّة مهرب له حينذاك.