نتيجة لم يتوقعها «موسم إسرائيل في فرنسا 2018»

قرر «المعهد الفرنسي» أن 2018 ستكون «مناسبة جديدة للاحتفال بالعلاقات بين فرنسا وإسرائيل، فتكرِّم الروابط المتينة والعالية المستوى القائمة أصلاً بين البلدين في مختلف مناحي الإبداع، وتضع خطوطاً لأفق المستقبل (...) والموسم سيُجرى بين حزيران (يونيو) وتشرين الثاني (نوفمبر) 2018، وسيشهد تظاهرات في البلدين تشمل مجالات الثقافة والاختراعات والعلوم والتربية والفرنكوفونية».

 

 

وأما محورا الموسم فيقعان تحت عنوانين: «تلاقح الاختصاصات والتفكير في عالم الغد وبنائه».

 

 

ذاك هو حرفياً الإعلان الرسمي لمعهد ليس قليل الرسمية والارتباط بالسلطات الفرنسية، وهو أنشئ بقانون ثم بمرسوم تطبيقي في 2010، وتشرف عليه وزارتا الخارجية والثقافة الفرنسيتان، ويستند الى 96 معهداً تابعاً له في العالم.

 

 

استفزت الخطوة وسطاً واسعاً متضامناً مع فلسطين في فرنسا، لا سيما أنها صدرت في وقت واحد مع إعلان دونالد ترامب تبنيه القدس عاصمة لإسرائيل، وأيضاً فيما تستعد إسرائيل لاحتفالات كبيرة لمناسبة مرور 70 عاماً على قيامها، في 1948. صدر بيان في أول يوم من العام الجديد، وقعته حينذاك أكثر من مئة جمعية فرنسية وشخصيات من عالم الثقافة والفن والسياسة، يعتبر الأمر «مخجلاً»، ويدعو لتكون 2018 «سنة فلسطين في فرنسا»، نظراً إلى النكبة التي مضى عليها سبعون عاماً، وباعتبار النضال الفلسطيني متعدد الشكل والميدان من أجل حماية الوجود، الذي لم يتوقف طوال تلك السنوات السبعين. ثم تأسست حملة اختارت لنفسها اسم «2018 زمن فلسطين»... وهو خيار موفق، إذ إن «الزمن» يتفوق بالطبع على «المواسم»!

 

 

وقد اتسعت هذه الحملة بسرعة مدهشة فبلغ عدد الموقعين على ندائها آلافاً عدة بعد أيام من إطلاقه. وهي أعلنت عن برنامج متكامل ستصدره بدءاً من 13 آذار (مارس)، وأنه، وتطبيقاً للمقاربة الأفقية لشبكات النضال المجتمعي، فالحملة ملك لكل مؤيديها الذين يمكنهم اقتراح مبادرات أو الإعلان مباشرة عنها تحت هذا الاسم الموحد وفي الموقع الالكتروني قيد البناء.

 

 

وقد جاءت مناسبة أولى لاختبار كل ذلك. ففي حين أعلن «فيبا» (FIPA) وهو «مهرجان الإبداع السمعي ــ البصري العالمي»، عن برنامجه الـ31 لهذا العام والذي يستمر لستة أيام كالعادة، وسيجري في مدينة بيارتز بين 23 و28 كانون الثاني (يناير)، فقد حدد أن إسرائيل ستكون ضيف الشرف فيه.

 

 

اختارت «زمن فلسطين» مدينة بايّون القريبة لتنظيم مهرجان سينمائي وفني مناهض يحتفي بفلسطين، وطبّقته فعلاً وبنجاح، كما نظمت تظاهرة مندِّدة بعرض أفلام إسرائيلية تمجد الاحتلال أمام قاعات العرض نفسها.

 

 

بياريتز، تلك الواقعة في جنوب غرب فرنسا، على شاطئ الأطلسي، على بعد كيلومترات قليلة عن الحدود الإسبانية، صارت منذ منتصف القرن التاسع عشر، حين اختارتها زوجة نابليون الثالث، الإمبراطورة أوجيني (وهي من أصول إسبانية) محطة لاصطيافها، مقصد الأرستوقراطية الأوروبية. وقد أنشئ فيها قصرٌ للإمبرطورة صار فيما بعد «فندق القصر» بمواجهة المحيط، في الرقم واحد من «أوتوستراد الإمبراطورة»... حيث جرت الفاعليات الرسمية للمهرجان. وكل ذلك يضع المدينة في إطار اجتماعي مرفه وتغلب عليه الساحة والتسلية. وأما بايّون المحاذية لبياريتز، فمدينة كبيرة، تطورت منذ مطلع القرن الفائت انطلاقاً من الصناعات البتروكيماوية المؤسسة على استخراج الكبريت والنفط من مناجم وآبار مكتشفة فيها، وعلى التصدير عبر مرفئها. وهي حاضنة ثقافية كما تاريخية لمنطقة الباسك، ومكان يمتلك تقليدياً حساسية متضامنة مع فلسطين.

 

 

وهكذا نُظم فيها مهرجان لفلسطين في الفترة نفسها بموازاة مهرجان بياريتز ذاك، وكان متعدد الفاعلية وناجحاً، وسمح بالخطوة التالية التي أعلن عنها قبل أيام، بانتظار البرنامج المتكامل ذاك في آذار: هناك اليوم وعلى امتداد الشهر الجاري، نشاطات متعددة، منها ما هو سينمائي مصحوب بنقاشات تعقب العروض، ومنها ندوات تصاحب معارض فوتوغرافية، وسوى ذلك.

 

 

ويبدو أن المناسبة ستكون سبباً في إيقاظ وتنشيط مناضلين وجمعيات وحركات وأندية متفاوتة الأحجام والتاريخ، لعل بعضها خبا خلال السنوات الماضية بفعل الإنهاك والاستنزاف العامين، أو الافتقاد الى المبادرة، وبفعل القمع والملاحقة أيضاً، لا سيما أنها كلها لا تملك موارد غير تلك الذاتية التي يتبرع بها أبناؤها ومناصروها، ولا تتمتع بأي دعم مؤسساتي، خصوصاً بعدما صدرت سلسلة من القوانين والقرارات الإدارية التي، وبحجة شبهة «معاداة السامية»، جففت بعض المساعدات المحصّلة بفضل برامج كانت تتقدم بها الى البلديات أو مجالس المحافظات. ومعلوم أنه سادت في فرنسا خلال السنوات القليلة الماضية أجواء هستيرية، خلطت بين هذه البروباغندا المنظَّمة بمنهجية من جانب دوائر صهيونية وإسرائيلية رسمية (معلن عنها، ولها ميزانياتها والموفدون المخصصون لها)، وبين منحى «إسلاموفوبي» بحجة مناهضة الإرهاب، أو الدفاع عن «الهوية» أو عن «العلمانية»، وهو منحى تبناه مسؤولون سياسيون كانوا في أعلى المناصب، وغذّته تيارات سياسية شتى من اليمين ومن بعض اليسار، لغايات انتخابية أحياناً، ولا تنفك وسائل الإعلام عن ترداد مفرداته ومفاهيمه، حتى صار الأمر كاريكاتورياً، بل صار خاصّية فرنسية مدهشة ولا معادل لها في أي بلد من العالم. ومن لا يذكر مسألة البوركيني الهزلية مثلاً، التي استحقت عليها السلطات الفرنسية تنبيهاً زجرياً من هيئة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة؟!

 

 

هذا الإيقاظ لعالم كامل وإعادة استنهاضه وتحفيز مبادراته كما خبراته الكبيرة، واستيلاد أفكار جديدة، وكذلك استحضاره معاً في إطار فاعلية واسعة عامة ومشتركة، يتم عبرها التنظيم والتشبيك وإن في شكل أفقي رجراج يحترم كافة الاتجاهات والأمزجة... هو بالتأكيد نتيجة غير متوقعة للاختيار الرسمي الفرنسي لإسرائيل وتخصيص العام للاحتفاء بها! لقد عاد للتحرك ولأشكال من التنسيق والعمل معاً ألوف الأشخاص كما الجمعيات على امتداد البلاد، وهذه دينامية كبيرة لعله يمكن اعتبار «موسم إسرائيل» ذاك قادحاً لها.

 

 

إلا أن أسس هذه الدينامية التي كانت في كمون أو سبات، تستند الى بشاعة المنحى الذي تتخذه السياسة الإسرائيلية ومؤيدوها، التي تتفلت يوماً بعد يوم ــ في الممارسة كما في الخطاب ــ من كل ضابط. وهو هروب مدهش الى الأمام يحصل بعنجهية عمياء لم يكن ينقصها إلا وصول ترامب الى الرئاسة الأميركية، والى جانبه أحد مرتكزاته، تيار «المسيحية الصهيونية»، التي يبدو أن نائبه، مايك بنس، أحد رؤوسه.

 

 

للكاتبTags not available