ما يفعله الحبُّ بالناس



طوال يومين شدَّتني الرواية التسجيلية "تزوجتُ بدوياً"، والتي تروي فيها فاطمة (السيدة النيوزلندية مارغريت فان غيلديرملسين) قصة زواجها من "محمد" العامل البسيط، بيّاع التحف في "البترا"، وكيف عاشت معه في كهف بلا ماء ولا كهرباء، لحوالي 25 سنة، قصة عشق نادرة!

المرأة التي جاءت فتاة عشرينية تضجُّ بالصخب والمغامرة، وبالأفكار والتجارب المندفعة عن الحياة والحريات، في فترة انتشار حركات الهيبّيين، وفي ذروة انفتاح مجتمعها وتحرره... اختارت أن تعيش في كهف عمره ألفي عام، وأن تمشي أكثر من كيلومتر لتحصل على جالون ماء للاستحمام في "اللجن" المعدني.. ثم لتحتفل بفرحة حقيقية لاحقاً حين استطاعا امتلاك "حمار" يمكن حمل الماء عليه.

"هذا ما يفعله الحب بالناس"، بقيتُ أقول لنفسي بعد قراءة الكتاب، .. ولو كنتُ في موضع ناشر الكتاب، لكان هذا عنوانه.

جاءت فاطمة، "كما صارت تسمى لاحقاً"، إلى الأردن في سياحة عابرة وقصيرة سنة 1978، لكنها وقعت في حب "محمد"، ولم تتردد في الزواج منه حين عرض عليها، وفي غمرة اندهاشها بالطقوس البدوية، كانت "تتفرَّج" على استعدادات عرسها، لا تعرف أين يقع دورها بالضبط في هذا الاحتفال الذي طغت عليه أصوات الأسلحة، وذبح الماعز، .. ولم تستطع أن تعلق على أي شيء، وهي التي لم تكن تتقن أي كلمة عربية حتى ذلك اليوم، فاكتفت بـ"الفرجة"!

لكنها قررت بعد ذلك أن تتعلّم، فصارت تأكل المنسف بيدها، وتلبس المدرقة، وتدريجياً صارت تخبز الشراك وتطبخ "الرشوف".

صارت بدوية بامتياز، حتى إنها حين رحل أهل زوجها إلى كهف آخر، قطعت جبلاً كاملاً مشياً لتزورهم.

قصة السيدة ماغ (كما كان محمد يحب أن يناديها) مؤثرة جداً، وتجعلك لا تترك الكتاب من يدك، وهي بالمناسبة لا تتحدث عن الحب في الكتاب إلا نادراً، ربما في ثلاث أو أربع عبارات متفرقة، لكنها تروي تفاصيل الحياة، وتعبها، وفقرها، وجوعها، وتجعلك تحسّ بحجم "الحب" الذي كان بين هذين العاشقين، بدون أن تقوله لك الكاتبة!

كيف لامرأة نيوزلندية مثلاً أن تنام في بيت أرضه من التراب وسقفه من الزينكو، والماء ينزل على وجهها ووجوه أطفالها من ثقوب السقف، و"حمّام البيت" هو ... الخلاء تحت أي شجرة، في مكان موحش وبرفقة زواحف مرعبة وحيوانات خطرة!

كانت تأكل الخبز الحاف غالباً، وإذا تيسَّر معه الشاي، أو اللبن أو الزبدة، فذلك احتفال عائلي وخير كثير، وحتى الخبز الحاف كان غالباً ما يأتي كـ"هدية" من أهل زوجها.. أو الجيران!

وحين أرسلت لها عمّتها "شيك" كمساعدة اشتريا فرنا للخبز، من معان، وكان حدثاً كبيراً في حياة "ماغ" و"محمد".

بعد ذلك جاء والداها لزيارتها، وانسجما مع البدو، وكان والدها يذهب لجلب الماء من البئر، ثم يقضي وقته بلعب "السيجة" مع نسيبه!

في الحياة الصعبة، وجمع الأغصان الجافة لإشعال نار الطبخ، أو تراكم الثلج على باب الكهف، لم تكن "ماغ" لتفكّر بالتخلّي عن محمد، ولو لساعة، والبدوي صاحب الشخصية الآسرة، كان يدللها ولم يغفل عن أنها مختلفة عن باقي نساء البترا، فحين وضعت طفلتها الأولى في "مستشفى البشير".. غاب عنها قليلاً ثم عاد يحمل لها باقة ورد، وهو الأمر الذي لم يعتده البدو. فهم كما تقول هي "ينقطون مصاري".

لكن الحياة لا تسير كما يشتهي الحبّ.

أصيب البدوي الجميل بالسكّري. وصار يغسل الكلى مرتين في الأسبوع. قبل أن يرحل.. لتظلّ "ماغ" في وحشة الكهف وحيدة.

ثم تقرّر السفر إلى أستراليا، ليدرس أبناؤها في جامعاتها، لكنها تفرح جداً حين يناديها أحد أولادها: يوم (أي ماما بلهجة بدو وادي موسى).

..

"ماغ" تعيش الآن في سيدني.

لأنها تقول "ماذا أفعل في البترا بدون محمد"!