ذكريات صدئة...علبة الخياطة

«......لما وصلا إلى الثلث الأخير من المنحدر صوب الجنوب، دخلا إلى اليمين ساحةً مصبوبة بالباطون، ثم سرير عريض من الحديد الصدئ؛ ساحة شبه مربعة صغيرة، لكنها نظيفة، تخترقها ثلاثة تجاويف تسمى أبواباً.

البيت المكون من غرفة واحدة، ثم غرفة صغيرة، على سبيل المطبخ، بابها من القماش وتشكل زاوية قائمة مع باب الغرفة، والباب الخارجي من الزينكو المحاط بأخشاب مهترئة، وهو مفتوح دوماً. كانت أمي قد أحضرت معها صحناً من الرز واللبن واللحم من الطنجرة التي ملأتها قبل قليل، وجئت معها لتوصله إلى بيت المريضة.
نظرت المريضة إلى ابنتها، وأشارت إلى علبة زرقاء تبدو في رف المطبخ، عرفت العلبة، لدينا في البيت مثلها، فتوقعت أنها تريد أن تخيط شيئاً. جاءت منار بالعلبة وفتحتها، فإذا بها ملأى بقطع الشوكلاته، تفاجأت من المنظر وقلت:
-يمه، شوفي.. بحطو الشوكلاتة في علبة الخياطة؟
ضحكوا جميعاً، أمي ضحكت حتى امتلأت عنياها بالدموع. المريضة ابتسمت، وقالت لي بحنان:
-يا حبيبي، هاي علبة شوكولاته، لما تخلص بنحطّ فيها إبر الخياطة والزرّه.
تناولت أكثر من حبة، ولم آبه لسخريتهم لأني لم أصدقهم أصلاً.
أمي شعرت بأنها بالغت في السخرية مني، وأدركت أن بيتنا لم تدخله علبة الحلويات هذه، وعلبة الخياطة التي لدينا حصلت عليها من جارتها، فقالت بحنان شعرت أنه مصطنع:
-خلص يمه، العيد قرّب.. والله لجيبلكو علبة شوكلاتة مثلها.
لم أصدقها.
أكره الأعياد وأتحول أثناءها إلى كائن مقموع ومضبضب وحزين ينتظر انتهاء هذه الهيزعة التي يكون فيها مثل الطالب اليتيم في حفل مدرسي على شرف الآباء. في الأعياد، كنا نعاني أضراراً بيولوجية حيث كان الوالد يأخذنا إلى نجيب القيضي، وهو صاحب محل كنادر (بالة خلاعية خربانة) يعالجها على سندانه الصدئ. ولما كنا نخشى أن لا يجد الوالد أحذية على قياسات أرجلنا، فقد كنا نوافق على أول فردة حذاء ندحشها في حوافرنا.
بالطبع....الحذاء يأكل اقدامنا..ونظل نعرج حتى العيد القادم.
...وللحديث بقية.