ليث شبيلات يكتب :التدخل الأجنبي يقلب الحلال حراما

في أحداث معان 2002 وما أكثر أحداث هذه المدينة المناضلة تخلت معظم القوى الوطنية في بادئ الأمر عن الشعب الرافض للطغيان حتى أن حزباً من أشد الأحزاب يسارية (أمينه العام أصبح وزيراً للتنمية السياسية أكثر من مرة بعد ذلك) أصدر بياناً يهاجم فيه الشعب، وتلكأت التنظيمات الأخرى مصدقة الرواية الرسمية رغم أن كل أبناء معان من معارضين وموالين وقفوا صفاً واحداً دفاعاً عن موقف أبنائهم. ولا يزال ابن معان الأخ الإعلامي ياسر أبو هلالة يصر كلما سنحت له مناســـبة أن يذكر موقف هذا الكاتب الذي نصر معان وكان سبباَ في عودة هذه القوى إلى الموقف الصحيح.
شاهدنا هوالسؤال: كيف يمكن لقوى وتنظيمات وطنية يفترض أنها 'لصيقة بهموم الشعب' أن تنعزل عن شعبها فيصبح الشعب عندها والذي هومصدر للسلطات متهماً بأنه غير عروبي وغير مقاوم وبأنه لعبة بيد الأجانب؟. من الذي يساهم في تكفير الناس بالمقاومة أهي 'تربيتهم الأصيلة' لا سمح الله؟ أم إنه استعمال كلمة حق كالمقاومة كأداة لباطل قمعهم وظلمهم وكأن المقاومة غير نابعة من جذورهم ومن ثقافتهم وذاكرتهم الجمعية؟ إن موقف سورية الممانع حاز على قوته الكبيرة لكونه مستنداً إلى الضمير العروبي الوطني للشعب العربي السوري، وكان هذا التناغم بين الرسمي والشعبي أحد الإيجابيات في السياسات السورية. وهو أمر متقلب للأسف ، ففي الوقت الذي نعمنا به في الأردن على المستوى الداخلي في مطلع التسعينات بنعمة انسجام الحكم والشعب في موقف معارضة الغزو الأمريكي للعراق، كان الشعب العربي السوري يعاني من انفصام شخصية النظام عن موقف شعبه القومي النضالي وذلك بإقحام الجيش العربي السوري في حفر الباطن. بل وأشد من ذلك فقد علمت من الرئيس مضر بدران وباقي الوفد الأردني إلى القمة العربية أنهم صعقوا لمداخلة الرئيس حافظ الأسد الطويلة في الجلسة السرية والتي كانوا يتوقعون أن تكون بيضة القبان في رفض القوات الأجنبية في الخليج فإذا بها تكون مرافعة عن ضرورة التدخل الأجنبي.
ورغم غضبنا من ذلك الموقف الذي كان حجر زاوية لمشروع قرار الرئيس مبارك الأمريكي المصاغ بالانكليزية والمترجم للعربية والذي أسس لحلف استعماري مشؤوم أقحمت به جيوش عربية في ذيول الجيوش الأجنبية في وجه بلد عربي ما زال يعاني من التشرذم بسبب الغزو الأجنبي، إلا أننا عندما دارت الدائرة على سورية لم نتخذ موقفاً عدائياً شامتاً منها بل سارعنا للوقوف بجانبها لأن مصير سورية أهم من أي أمر آخر.
وقد أكرم الله كاتب هذه السطور بأن لا ينسى نقد مواقف الحكومة السورية في ما يخص المظالم الداخلية كلما وقف مدافعاً عن سورية وعن المقاومة لأن في عكس ذلك فقدان تام لأية مصداقية. ففي أولى محاضراته الدمشقية عام 1997 وفي نفس اليوم الذي سمح له فيه بدخول سورية بعد طول غياب ، وفي مكتبة الأسد وبحضور كبار المسؤولين انتقد سكوت مثقفي سورية عن الوجود العسكري السوري في حفر الباطن وانتقد ذل تسليم سيادة البلاد للأجنبي بالانصياع لقرار محاصرة العراق.
وفي رسالتين منشورتين عام2002 ثم 2003 انتقد في الأولى بحزم موقف الإمام في إيران من العراق والتناغم مع المقررات الدولية والتفاهم مع القوات الغازية، وفي الثانية موقف المقاومة الإسلامية في لبنان الناعم من المعارضة العراقية التي جاءت على ظهور الدبابات الأمريكية والتي ما زالت تربطه بها صلات المواددة.
وفي عام 2005 كانت مداخلته في مناسبة 23 تموز/يوليو في احتفال لقوى المعارضة السورية في دوما منصبةً على اتهام الأنظمة الشمولية الثورية بأنها ليست أشد قمعاً وحسب، بل إنها هي التي شرعنت للثقافة العروبية القمع ابتداء بحجة الدفاع عن الثورات الانقلابية العسكرية ، فقلدتها بكل أريحية الأنظمة المسماة بالرجعية مستفيدة منها ومتعلمة من أساليبها ومن منطق الدفاع الذي تسوقه.
وأخيراً في 2 تموز/يوليو 2006عند تعرضت سورية لهجمة استعمارية زعمت أن النظام لن يصمد أمامها سوى بضعة أشهر، ألقى محاضرة في مكتبة الأسد فيها نقد للمظالم والفساد في سورية بين فيها ان قمع الأنظمة الرسمية للمواطنين هو الذي سيدفع بالمجتمعات نحو فوضى الانتفاض على الأوضاع القائمة.
إن تكرارسوق هذه المقدمة بين يدي ما يليها مهم لتبيان مصداقية الكاتب الذي لم يفته طوال اثني عشرة سنة أن لا يغفل السلبيات الداخلية في سورية كلما دفعته عروبته وشعوره الوطني إلى مساندة سورية في وجه الاستهداف. ففي كل مداخلة كنا نصر على أن مداخلتنا المؤيدة تسقط وتصنف في باب النفاق والرياء إن لم نتكلم عن الطغيان والفساد والقمع الذي يتعرض له المجتمع السوري, لذلك ومن منطلق هكذا مصداقية التي كانت دائماً تظهر عند صمت معظم الداعمين الآخرين تصدر اليوم هذه السطور الواجبة التبيان.
في اتصالات مع معارضين موثوقين بعروبتهم ومقاومتهم قالوا إنكم ترتكبون جريمة دفع الناس للكفر بالعروبة والمقاومة والمقاومين. فهل إن الشعب المتحرك بهذاالزخم الجماهيري 'عميل' للأجنبي أم إنه الأصيل المطالب بحقوقه. وهو الأب الشرعي و الشقيق الشرعي لأية مقاومة ولأية مشروعات عروبية.
وقد حاول كاتب هذه السطورالتدخل بالنصح قبل بدء الأحداث ثم في بداياتها، وقد وثق ذلك خطياً ونشره. إذ منذ مطلع العام كنا نتوقع وما زلنا تحركات جماهيرية في كل البلاد العربية ومنها سورية، وأحببنا أن يطبق المثل القائل 'درهم وقاية خير من قنطار علاج'، إلا أن البعض اختلف معنا في التشخيص واعتقدوا أن سورية بمنأى عن هذه الظاهرة العربية. وعندما تفاجئوا بحدوث ما توقعناه لم يجدوا منطقاً يؤكد صحة ما ذهبوا إليه سوى القول بأن ما يجري إنما هو عمل عصابات مسلحة ومن هنا تم اللجوء إلى استعمال العلاج الخاطئ الذي لا نجاة فيه بل إنه مركب للانهيار، فتطور الأمر ليصبح العلاج سبباً رئيساً في استفحال الداء. فمن المسؤول عن تطور الشعارات السلمية الأكيدة من 'حرية' إلى 'إسقاط النظام'؟ هل هي قوى أجنبية متآمرة؟ أم عصابات كما يقال مسلحة؟ أم إن سوء تدبير النظام هو الذي يدفع باتجاه ارتفاع سقف الشعارات والتسبب في بدء بعض التوجه لدى أشد شعوب أمتنا عروبة إلى التدويل؟ علماً بأننا لا ننكر أبداً وجود جهات لها رغبات ونوايا وتحركات ضد سورية وغيرها تتوق لفرصة ركوب المد إن سمح لها الغافلون.
بعد أربعة أشهر على أولى المظاهرات الكبرى المطالبة بالحرية وبعض الإصلاحات في درعا لم يستطع المسؤولون تقديم إجابات مقنعة لطروحاتهم:
فلم تحدد الجهة المتآمرة ولم يقدم للجمهورشيئاً واقعاً عن التنظيم الهيكلي وأسماء القياديين الرئيسيين لهذا التنظيم المتآمر الذي دوخ البلاد حتى اضطرت للاستعانة بالجيش.
وأين كانت الاستخبارات وهي التي لا يتصور أن تكون غافلة عن وجود هذا الحجم الخطير من التنظيم المسلح.
وكيف استطاع هذا التنظيم الشبح أن يدوخ دولة راسخة مثل سورية؟ فإن وجد فعلى الدولة أن تقنع الرأي العام السوري والعربي بوجوده وعن سبب تقصيرها في كشفه مبكراً وعن سبب عدم عزل ومحاكمة الأمنيين المقصرين في كشف 'المؤامرة' بل إطلاق يدهم أنفسهم اليوم لإفشال 'المؤامرة' .
ثم لماذا لم يضح بفاسد واحد في قربان التقرب من الشعب رغم أن الفساد المالي قد اجتمع عند بعضهم مع الخيانة الوطنية بتصريحاتهم المساندة لأمن 'إسرائيل'.
والسؤال الملك هو كيف تختفي المجموعات المسلحة عن مظاهرات التأييد وهي أهم هدف يتوقع أن تستهدفه؟ وإن صح وجود مجموعات مسلحة وقد يكون ذلك فعلاً ، فهل الخطة الأمنية تقتضي الانقضاض على المجتمع بأسره أم تتطلب عمليات جراحية دقيقة دون تدمير بقية جسم المجتمع.؟ ولماذا اختفت التنظيمات المسلحة عن مظاهرة حماة الشهيرة في 1-7-2011 التي سمح بإقامتها المحافظ الذي كوفئ بالإقالة.
لا يوجد مخلص واحد راغب في تكرار تجربة العراق وفي ذلك لا نريد تكرار حفر الباطن الذي كانت فيه جيوش عربية في مهمات 'وطنية' في خندق واحد مع الأمريكان. وفي هذا المجال على المعارضة الممتلكة للشرعية في كل مطالبها وبسلميتها أن تصحو إلى الفخ الأكبر الذي يدبر لها وأن تحذر من السقوط سقطة مرعبة في حضن الأجنبي. إن مثل هكذا سقوط إن حدث لا سمح الله لهو حبل النجاة الوحيد لأعداء الاصلاح والتغيير حيث ستصبح شرعية المشتكى منهم رغم كل القمع المرتكب منافسة لشرعية المعارضة. إن على المعارضة التي قدمت جليل التضحيات أن تدرك أن الطريق طويل وأن قافلة التضحيات التي بها وبها فقط تهزم الفساد والقمع وتحفظ طهارتها وعروبتها ووطنيتها ما زالت في أولها. فلا استعانة بغير تضحياتها وإلا خطف الأعداء تلك التضحيات ليعيدوا انتاج الظلم.
عندما تدخلنا بالنصيحة قبل ظهور الاحتجاجات كانت طريق الحوار سالكة بيسر وكان الرئيس مرشحاً بكل يسر بل كان المرشح الأوحد الذي يستطيع قيادة عملية إصلاح جادة تقدم بين يديها قرابين سمينة من محاسبة للفاسدين. ونكذب اليوم إن قلنا أن ذلك ما زال ممكناً رغم تمسكنا بضرورته لإنقـــاذ لسورية من أخطبوطات التدخل الأجنبي، الذي لا يتحمل مسؤوليته أحد بأكثر من أجنحة السلطة التي تدفع معالجاتها القمعية غير السياسية سورية إلى أحضان الأجنبي دون قصد (أو بقصد بعض العملاء من خلايا نائمة داخل السلطة وهو الأمر الأخطر).
لا شك أن المعارضة في غالبيتها الساحقة رافضة للتدخل الأجنبي عسكرياً كان أو سياسياً. وفي هذا فإن نصب فخ للمعارضة بتسهيل زيارة السفير الأمريكي إلى حماة حتى تظهر الثورة مدفوعة من الخارج يجب أن لا يقع فيه عاقل. فشعبنا العربي السوري غير متهم بعروبته ووطنيته ابتداء، وعلى أصحاب المطالب المشروعة أن يدركوا بأن خلط الأوراق بهذه الطريقة هو من تدبير الخصوم وليس من تدبير الأصدقاء وهو أيسر وأقصر الطرق للتشكيك بعدالة مطالبهم وبالتالي إجهاض مسيرتهم وتفريق الناس من حولهم.
إن أي ثمن ندفعه من أجل الحوار رخيص، وإن إنقاذ سورية لن يكون إلا بتنازلات ضخمة من الممسكين بالسلطة لإعادة توزيعها على الشعب كافة من خلال مؤسسات تمثيلية شرعية منشأة بعيدة كل البعد عن التدخل الأمني الذي هو أكبر مفسدة للحياة السياسية الشرعية لاي بلد. إن سورية العربية أهم من أي شخص أو حزب بل وأهم من أية شخصية أو جهة معارضة فكل من يقدم في الأولوية سورية الواحدة الموحدة موالياً كان أم معارضاً يدرك أن عليه أن يقتطع من حظوظ نفسه وجماعته وحزبه من أجل حظ سورية والحفاظ عليها سيدة حرة تنعم بالعدل والمساواة والبعد عن الفساد ومن أجل مجتمع نموذجي في المقاومة والتحرير ومقاومة الاستعمار.