اعادة النظر في مسيرة التعليم الجامعي الخاص



مضت فترة طويلة على البدء بتأسيس جامعات خاصة في مختلف التخصصات في الأردن, ولا شك أنّ هذه التجربة مهمّة وكبيرة وخطيرة, ولها آثار عريضة على المجتمع الأردني, وعلى المجتمعات المجاورة أيضاً, وعلى مستقبل الأجيال القادمة.

هذه التجربة لها وعليها , وتستحق التوقف والدراسة والتقويم, بطريقة علمية منهجية, تشترك فيها كل الأطراف المعنية, ولكن الطرف الأكثر عناية وتحملاً للمسؤولية هي الحكومة ووزارة التعليم العالي فيها, بالإضافة إلى النخبة الأكاديمية المتمثلة بأساتذة الجامعات وأعضاء الهيئات التدريسية التي ما زالت حتى هذه اللحظة ليس فيها تمثيل نقابي يرعاها, ويتحسس مشاكلها, ومعاناتها, مع أنّها من أكثر فئات المجتمع أثراً وخطورةً في المجتمع ومستقبله.

لا شك أنّ الأردن مسبوق بتجربة التعليم الجامعي الخاص, وهناك جامعات غربية عريقة, تمثل المواقع المتقدمة في ترتيب الجامعات على مستوى العالم من حيث القوة العلمية وارتفاع مستوى التدريس والمناهج التدريسية ومستوى الخريجين وأثرهم في المجتمع, مثل جامعة "هارفارد" الأمريكية على سبيل المثال, ولكن إذا تمّ عقد مقارنة بين تجربة العالم الغربي وتجربتنا المحلية, فسنجد بوناً واسعاً يقاس بمعايير فلكية.

وأنا هنا لست بمعرض التقليل من الايجابيات التي تتسم بها هذه التجربة, أقلّها أنّها استوعبت أعداداً كبيرة من أبناء هذا البلد الذين لم يستطيعوا الحصول على مقاعد جامعية, أو لم يستطيعوا الحصول على التخصص المرغوب, وهذا بلا شك له مردود مادي كبير على مستوى الدخل القومي, إذ لو أنّهم خرجوا إلى خارج الأردن لأدّى إلى نزيف مادي كبير, من العملات الصعبة إلى الخارج, بالإضافة إلى حفظ كثير من أبنائنا من الآثار السلبية للغربة المنعكسة على الشخصية الأردنية من ناحية نفسية أو فكرية أو اجتماعية.

بالإضافة إلى توفير فرص عمل عديدة لحملة الشهادات العليا, وكذلك لعدد كبير من التخصصات الإدارية, وتحريك السوق المحلي بشكل نسبي, لكن كل ذلك يتوارى خلف السلبية الكبرى المتمثلة بالقيم العلمية, ومنهجية التعليم, وإدارة العملية الأكاديمية التي تنعكس آثارها على المستوى العلمي (للخريج), وما يتبع ذلك من آثار لا حصر لها على المجتمع كلّه, بالإضافة إلى تلك المسألة المتعلقة بعضو هيئة التدريس من المس بكرامته, واحترام تخصصه, ومكانته العلمية وخبرته العملية, وهذا بحاجة إلى بعض التفصيل غير الممل.

القضية الرئيسية أنّ الجامعات الخاصة وقعت تحت سيطرة بعض الحيتان أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة, وغالبيتهم ليس له علاقة بالموضوع الأكاديمي ولا تاريخ له في هذا المجال ولا صلة قربى ولا نسب, وإنّما استطاع أن يحصّل هذا المال بطرق أخرى تتعلق بتجارة الأراضي والعقارات, وتجارة العملات والأسهم, أو التعهدات المختلفة من كل ألوان التجارة, ثمّ أرادوا أن يستثمروا في مجال التعليم, بهدف الربح, ولا علاقة لذلك بفلسفة علمية أو غايات أكاديمية, ممّا يجعل هؤلاء يتدخلون بسير العملية الأكاديمية البحتة من باب فرض القرار الإداري المهيمن من صاحب المال, ولذلك نجد أنّ رئيس الجامعة الخاصة يحمل درجة الأستاذية, وتخصصه محترم, وسجلّه ممتاز, ولكنّه يصبح صورة شكلية وألعوبة بيد صاحب المال, بلا حول ولا قوة, ولا رأي ولا أثر, ولا لون له ولا رائحة, إلاّ ما كان في نطاق المجاملات.

وفي هذا السياق يأتي صاحب المال لينهي عقود الأساتذة القدامى ويعيّن مكانهم أساتذة جدداً أو عاطلين عن العمل برواتب قليلة تصل إلى نصف راتب الأستاذ القديم; من أجل توفير الربح, لأنّ الربح هو الهدف الأول والأخير, وكما يقول المثل العامّي (عمره لا حدى حوّش).

المقصود هنا, يجب إعادة النظر في القانون الذي ينظّم الحدّ الأعلى لامتلاك الأسهم في الجامعة, والحيلولة دون سيطرة حيتان السوق على الجامعات, والهيمنة على إدارة العملية الأكاديمية, حتى لا تصبح مزارع خاصة, يهان بها العلم وتمسخ مكانة حامل الدكتوراة, وتصبح التجارة بالعلم مثل التجارة بالخضار والأراضي والأبقار.


rohileghrb@yahoo.com