إشكال الزمن في فكرنا المعاصر


 

 

يتبيّن من خلال مراجعة الفكر العربي الحديث والمعاصر أن ثمة إشكالاً مركزياً يؤسس لكل الإشكالات الأخرى، من إشكال الحرية والديموقراطية والعلمنة الى إشكال القومية والوحدة والاشتراكية مروراً بإشكال الغرب والحداثة وحقوق الإنسان والمواطن، ويتمثل ذلك في إشكال الزمن. فقد تنازع فكرنا الحديث والمعاصر على الدوام وعي شقي بين الحنين الى ماضٍ مفقود وانتظار مستقبل موعود، فيما الحاضر خالٍ خاوٍ خائب.

 

 

في الاتجاه الماضوي التأصيلي ذهب فريق من النهضويين الأوائل الى أن قيم الحداثة والتنوير تجد أساسها الوطيد في تراثنا العربي. قال رفاعة الطهطاوي «إن الإفرنج يعترفون لنا بأننا كنا أساتيذهم في سائر العلوم» ورأى خير الدين التونسي أن «مخالطة الأوروبيين للأمة الإسلامية كانت ابتداء التمدن عندهم» وذهب محمود عبده الى أن «مدنية الإسلام كانت السبب في نهوض أوروبا» ورأى رشيد رضا أن «الحكم الدستوري هو أصل ديننا فنحن استفدناه من الكتاب المبين لا من معاشرة الأوروبيين».

 

 

وامتد هذا الاتجاه الى فكرنا المعاصر فقال راشد الفنوشي إن «قيم الحداثة ما هي إلا بضاعتنا ردت الينا»، وذهب حسنين توفيق ابراهيم وأحمد شكر الصبيحي الى أن العصر النبوي عرف تجربة العقد الاجتماعي وأن القيم التي يستند اليها المجتمع المدني، أي الحرية والمساواة والقبول بالتعدد والاختلاف موجودة في الإسلام.

 

 

حتى أن دعاة الأصالة لم يترددوا في تأسيس الحداثة الأوروبية في التراث العربي، حيث هي أرقى وأصفى وأنزه، فرأى حسن صعب أن أدياننا وفلسفاتنا هي التي قدمت الرؤى للإنسان الكوني، وذهب محمد عابد الجابري الى أن المثقفين في العصور الوسطى الأوروبية هم من نتاج المثقفين في الحضارة العربية، والى أن الأسس النظرية لحقوق الإنسان في الثقافة العربية لا تختلف عن تلك التي قامت عليها حقوق الإنسان في الثقافة الغربية.

 

 

على الضد من هذا الاتجاه الماضوي، عرف فكرنا العربي اتجاهاً آخر مستقبلياً طوباوياً أرجأ كل طوباويته وأحلامه وأمانيه الأيديولوجية الى مستقبل موعود يحمل في جعبته كل قيم الأيديولوجيا ومثلها وتصوراته. فالحرية والديموقراطية والعلمانية والاشتراكية والوحدة العربية، كلها مرجأة الى زمن آت، طال أو قصر، تقدم أو تأخر، لكن قدومه حتمية تاريخية لا ريب فيها. من هذا المنظور رأى علماني لبناني أن حركة الجدلية التاريخية تعبّر عن نفسها بضرورة الانتقال من الجماعات الدينية الى المجتمع العلماني، فـ «التاريخ يعمل من أجل الثورة المجتمعية التي ستولد إنساناً جديداً».

 

 

وأحال الفكر القومي طوباويته القومية الى التاريخ، فالوحدة العربية هي في رأي بعض القوميين ضرورة تاريخية يحتمها تطور المجتمع وتقدم الرأسمالية العربية، وهي في رأي بعضهم «ضرورة وجودية اجتماعية لا بد أن يتمخض عنها سياق التطور التاريخي».

 

 

ولم يكن الفكر الاشتراكي أقل استجارة بالتاريخ، فالتطور الرأسمالي يحتم الاشتراكية، وما علينا إلا أن ننتظر لنرى الحلم الاشتراكي الموعود خارجاً من رحم الرأسمالية المنهارة».

 

 

ومن منظور ثقافي، ربط محمد عابد الجابري ومحمد أركون وأدونيس وهاشم صالح تقدم الإنسان العربي بطوبى أيديولوجية مستقبلية تتمثل في نقد الرؤية الدينية المؤسسة للجسم الاجتماعي العربي.

 

 

وإذ تتناقض الأزمان الأيديولوجية تُطرح أسبقية كل زمن من هذه الأزمنة وأولويته. فهل الزمن الاشتراكي سابق على الزمن القومي؟ أم أن الزمن الرأسمالي هو الذي يؤسس على السواء للزمنين القومي والاشتراكي؟ وهل الزمن الليبرالي قبل الزمن التنموي؟ أم أن الزمن التنموي قبل الزمن الليبرالي؟ وهل الزمن العقلاني هو الممهد لكل هذه الأزمنة؟ أم أنها هي المؤسسة للزمن العقلاني؟

 

 

إزاء كل هذه التساؤلات، نرى أنه آن الأوان لخروج الفكر العربي من كل هذه التصورات المخلّة، فيكف حيال الاعتقاد أن حداثتنا وراءنا وأنه ليس علينا للاندراج في سياق عصرنا سوى استعادتها، فيما يكف في الوقت نفسه عن إرجاء طوباوياته ومثله الأيديولوجية الى زمن متخيل قد لا يأتي أبداً، ويقلع عن تصوره أن التاريخ سيتكفّل بإنجاز أيديولوجياته، فالتاريخ على حد تعبير حازم صاغية لا يحل شيئاً، بل هو يُصنع بجهد إنساني في حاضر هو مناط العمل والإبداع، وهو منطلق كل تحول أو إنجاز، من دون ارتكاس الى ماض مفقود ولا إرجاء الى مستقبل موعود.

 

 

من الإيمان بهذا الجهد الإنساني يجب أن يتم التأسيس لرؤية أيديولوجية جديدة لـــلزمن فـــي فكرنا العـــربي، رؤية ثورية انقلابية تبدل معطــــياته من الأساس وترسي تصوراً آخـــر للتغييـــر متحــــرر على السواء مـــن أوهـام الماضي وأحلام المستقبل.