أ.د محمد الحموري يكتب: القاضي السلامات وحرية الرأي
تنص المادة (118/2) من قانون العقوبات على ما يلي:
"يعاقب بالاعتقال المؤقت مدة لا تقل عن خمس سنوات من أقدم على أعمال أو كتابات أو خطب لم تجزها الحكومـة... فعكّـر صـلات المملكة بدولـة أجنبية...".
إن من يقرأ هذه المادة, يتولد لديه الاعتقاد بأن من شرّعها قد تجاهل تماماً نص المادة (15/1) من الدستور الأردني, التي تنص على أن "تكفل الدولة حرية الرأي". ذلك أن التجريم الذي تنص عليه المادة (118/2) سابقة الذكر قد تجاوز كل معقول, إلى الحد الذي لا يجد القانوني أمامه سوى القول أن المادة المذكورة تنتمي إلى العصور الغابرة. فمن غير الممكن أن يستأذن المواطن الأردني من الحكومة, ليقوم بكتابات أو إلقاء خطب ينتقد فيها تصرفات صادرة عن دولة أجنبية أو حتى رئيس تلك الدولة, ما دام أن صاحب الرأي في ذلك لديه مبرراته التي ينطلق منها. فليس معقولاً, على سبيل المثال, أن يحصل صاحب الرأي على موافقة الحكومة على نقدٍ يوجهه لأمريكا ورئيس أمريكا, بسبب مواقف تلك الدولة العظمى من العراق, أو أفغانستان, أو القضايا العربية بوجه عام وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
لقد حاولت أن أستذكر من خلال قراءاتي في علوم القانون والسياسة, إن كان في العالم الغربي الذي استوردنا نظامنا الدستوري والقانوني منه, نصٌ مماثلٌ, ومتى تم تشريعه, وأسعفتني الذاكرة في الاهتداء إلى حكمٍ مماثلٍ لنص قانون عقوباتنا في روما, بعد أن أصبحت المسيحية هي الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية عام 313م, وبدأ التداخل بين الديني والزمني, ليبلغ هذا التداخل أوجه عام 380م, عندما صدر في هذا العام المرسوم التسالونيكي في الدولة الرومانية قبل انهيارها بقرن تقريباً, حيث شرّعت فيه نصاً يؤكد "إن من يقول أو يعمل على نحوٍ يخالف إرادتنا, فإنه يدخل في عداد الهراطقة وينال العقوبة الإلهية, ثم العقوبة الدنيوية التي قد نتخذها بإلهام من السماء". وبعد هذا عثرت في تاريخ الدولة الإسلامية على حكمٍ قانوني, من خلال الفتوى الشرعية التي صدرت عام 171 هـ مؤداها بأن أصحاب التوجهات المخالفة لدولة الخلافة (أي التوجهات السياسية للسلطة) يدخلون في عداد الزنادقة. وقلت في نفسي إن من شرّع نص المادة (118/2) من قانون العقوبات لا زال يعيش في فترات ترجع قروناً إلى الوراء.
وتألمت كثيراً وحزنت على حال الحرية التي سفحها النص في وطني, وتساءلت: كيف قبلت الحكومة التي أرسلت هذا النص إلى مجلس النواب أن تفعل ما فعلت, وكيف وافق أعضاء مجلس النواب ومجلس الأعيان على تشريع هذا النص, وكيف طاوعتهم قلوبهم فيما فعلوا, وهم الذين يفترض فيهم أن يكونوا حماةً للمادة (15/1) من الدستور, التي تؤكد بأن تكفل الدولة حرية الرأي.
وذهب ذهني إلى أبعد من ذلك, وقلت في نفسي, إن جلالة الملك عبدالله رجلٌ حضاري, ويعقد مؤتمرات صحفية كثيرة في أمريكا ودول أوروبا, وتساءلت: ماذا لو قام بعض الصحافيين هناك وسألوا الملك عن نص المادة (118/2), وقالوا له إن جلالتك قد وقّع على هذا النص. بالتأكيد سيقول جلالة الملك أنا رئيس دولة في نظام برلماني, وعليّ أن أوقع على ما توقع عليه الحكومة والبرلمان الأردني. ورغم هذا الجواب الدستوري, فإن جلالة الملك سوف يشعر في أعماقه بأن هذه الإجابة لن تشفي غليله أو غليل سامعيه من الصحافيين, وسوف يشعر بداخله بحرجٍ من هذا الذي ينص عليه نظامنا القانوني, لأن المادة المذكورة كفيلة بقتل حرية الرأي التي يستند إليها أي نظام ديمقراطي برلماني, أو يسعى للوصول إلى هذا النظام.
وبتاريخ 22/5/2011 شعرت بأن الهم الذي سببته لي المادة سابقة الذكر قد زال, وتمنيت لو يُسأل جلالته عن الموضوع ليجيب باعتزاز, نعم, هذا حدث عندنا, ويمكن أن يحدث في أي دولة, لكن الأهم أن القضاء الأردني مارس رقابته وحكم بعدم دستورية هذا النص, وبقيت حرية الرأي على جلالها وقدسيتها كما أرادها دستورنا. أقول هذا بعد أن وجدت أن محكمة جنايات عمان برئاسة القاضي الدكتور ناصر السلامات وعضوية القاضي محمد عوجان قد أصدرت في هذا التاريخ حكماً يقضي, بأن المادة (118/2) من قانون العقوبات مخالفة للدستور الأردني, وأن المحكمة تمتنع عن تطبيق المادة المذكورة في القضية المنظورة أمامها.
ففي هذه القضية سيق إلى المحكمة اثنان من أصحاب الرأي هما موفق محادين وسفيان التل, بتهمة مقارفتهما للجناية المنصوص عليها في المادة (118/2) سابقة الذكر, وهي تعكير صفو العلاقات مع دولة أجنبية (والدولة في القضية هي أمريكا), وأصدرت محكمة جنايات عمان حكماً يقع على (93) صفحة صاغه الدكتور ناصر السلامات, كما علمت في حينه, نقتبس منه الفقرات التالية:
إن حرية الرأي هي من الحريات الأساسية التي تحتمهـا طبيعـة النظــام الديمقراطي, وتعد ركيزة لكل نظام ديمقراطي سليم, وتعتبر بمثابـة الحرية الأصل التي يتفـرع عنها الكثير من الحريات والحقوق العامة الفكرية والثقافية وغيرها, وتعـد المدخـل الحقيقـي لممارستها ممارسة جدية, كحق النقد المباح وحرية الصحافة والطباعـة والنشر وحرية البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني والثقافي وحق الاجتماع للتشـاور وتبـادل الآراء, وحق مخاطبة السلطات العامة... وحرية الرأي ضرورة لازمة لمباشرة الحقوق السياسية, وإمكانية المساهمة بهذه الحقوق العامة في الحياة السياسية مساهمة فعالة كحق تكويـن الأحزاب, وحق الانضمام إليها, وحق الترشيح والانتخاب وإبـداء الـرأي... إن حريـة الرأي والتعبير أصبحت من المبادئ الأساسية التي لا يُتنازع عليها, وبالتالي فإن الحـق في حرية الرأي والتعبير يعد حقاً قانونياً ملزماً تتعهد الدول وأشخاص القانـون الدولـي باحترامه والعمل على ضمان عدم انتهاكه.... وقد نصت المادة (15) من الدستور الأردني على أنه (تكفل الدولة حرية الرأي, ولكل أردني أن يعرف بحريـة عـن رأيـه بالقـول والكتابة...)
ويستفاد من نص المادة (15) من الدستور الأردني ما يلي:
إن ما توخاه المشرع الدستوري من خلال ضمان حرية التعبيـر والـرأي هو أن يكـون التماس الآراء والأفكار وتلقيها عن الغير ونقلها إليه غير مقيد بمصادر بذواتها تحد مـن قنواتها, بل قصد أن تترامى آفاقها وتتعدد مواردها وأدواتها وأن تتفتح مسالكها وتفيض منابعها, لا يحول دون ذلك قيد عاصف بها مقتحم دروبها, وبذلك فإن الهدف من إقـرار الدستور لحرية الرأي والتعبير هو أن تستوفى هذه الحرية, أي يظهر من خلالها ضـوء الحقيقة جلياً, ولا يتصور أن يتم ذلك إلا من خلال اتصـال الآراء وتفاعلهـا ومقابلتهـا ببعض, وقوفاً على مـا يكون منها زائفاً أو محققاً لمصلحة عامـة مبتغـاه... فعندمـا يورد المشرع الدستوري كلمة "الدولة" في مطلـع الفقرة الأولى مـن المـادة (15) مـن الدستور فإن ذلك لا يقصد به الحكومة ((السلطة التنفيذية)), بل الدولة بكـل سلطاتهـا, وإن إلتزامها ((أي الدولة)) لا بد أن يكون إيجابياً, ذلـك أن استخـدام المشـرع لكلمـة ((تكفل)) فهذه تعني إلتزاماً إيجابياً... إن حرية الرأي والتعبير التي نصت عليهـا المادة (15) من الدستور أبلغ ما تكون أثراً في مجال اتصالهـا بالشـؤون العامـة, وعـرض أوضاعها تبياناً لنواحي التقصير فيها, وتقويمها, وبالتالي فإن حـق التعبير عـن الآراء التي يتم تناولها وإبداء الرأي حولها, ليس معلقاً على صحتها, ولا مرتبطاً بتمشيها مـع الاتجاه العام في بيئة بذاتها, وإنما أراد الدستور بضمان حرية الرأي والتعبير أن تهيمـن مفاهيم حرية الرأي على مظاهر الحياة في أعماق منابتها, بما يحقق المصلحة العامة...
إن المحكمة وباستقرائها لنص المادة (118/2) من قانون العقوبات فإنها تجد ما يلي: "إن المشرع وضع قيداً على حرية الرأي والتعبير مفادها الإجازة المسبقة من الحكومة, وبذلك فقد نص المشرّع على الرقابة المسبقة على حرية الرأي والتعبير, وهذا يتنافى مع ما قرره المشرّع الدستوري, إذ أن الإجازة المسبقة لحرية الرأي والتعبير تتعارض صراحة مع المبدأ الدستوري الذي أقرّه المشرع في المادة (15) من الدستور... وعليه تجد المحكمة أن ما أورده المشرّع في نص المادة (118/2) من قانون العقوبات فيمـا يتعلـق بالإجازة المسبقة على حرية الرأي والتعبير لا يتفق والنص الدستوري, الوارد في المادة (15) مـن الدستور الذي كفل حرية الرأي والتعبير... وعليه وتأسيساً على ما تقدم بيانه حول مخالفة ذلك القيد الذي أورده المشرّع في المادة (118/2) من قانون العقوبات فيما يتعلق بالإجازة من قبل الحكومة ومخالفة ذلك لحرية الرأي والتعبير التي قررها الدستور والذي يسمو على القوانين, فإن المحكمة تمتنع عن تطبيق نص المادة (118/2) لعدم دستوريته".
وشعرت بالزهو عندما قرأت الحكم, وأعلنت ذلك على فضائية جوسات الأردنية, حيث قلت, هذا هو القضاء الشامخ, وأضفت أنه لسعادتي الغامرة بالحكم, أرسلت فقرات منه إلى زملائي من أساتذة القانون في مصر, وترجمات لبعض الفقرات إلى زملاء لي من الأساتذة في بريطانيا وأمريكا, ووجهت الشكر للقاضي ناصر ولزميله في الهيئة القاضي محمد عوجان, وأهبت بقضاة الأردن أن يتصدّوا لكل نص يخالف الدستور ويمتنعوا عن تطبيقه.
حقاً لقد شعرت بالفخر وأنا أخبر زملائي بما قرره قضاؤنا, وبأن لدينا أحكاما شامخة في موضوع الحريات صدرت في وطني.
لقد استند الدكتور ناصر السلامات في حكمه إلى العديد من أحكام القضاء المقارن, ولدراسات فقهية مرجعية وازنة ومتخصصة, وحلل النصوص والوقائع بجدارة فائقة, ليفصل بين المساحات المباحة للحريات الدستورية وبين النص الذي شُرّع لإغلاق أبواب الوصول إلى تلك المساحات, فكان حكمه مسبباً مؤصلاً يستحق الاحترام, والاستشهاد به من قبل علماء القانون, ليس في وطني فحسب, وإنما من علماء القانون في الدول الأخرى التي جرت العادة على أن يُشار إلى أحكام قضائها بالبنان.
وقدرت أن الهيئة التي يرأسها الدكتور ناصر السلامات, وهو يحمل شهادتي دكتوراه في القانون, ستكون إحدى الهيئات الأساسية التي تنظر في قضايا الحريات, في ضوء ما أصبح لديها من تراكمٍ معرفي في هذا المجال, ويمكن البناء عليه. ولكن ما إن مضى أقل من شهرين, حتى صدر القرار بنقل الدكتور ناصر السلامات إلى وظيفة مدعي عام في محكمة الجنايات الكبرى, وهي وظيفةٌ لا بد وأن أشغلها سنوات قبل أن يصبح رئيساً لمحكمة جنايات. وبالقدر الذي فرحت فيه بحكم القاضي المذكور وشعرت بالزهو والفخر, فقد أحسست بالحزن لإخراج الدكتور ناصر من رئاسة هيئة محكمة جنايات عمان في أعقاب إصدار الحكم. وذهبت بي الظنون مذهباً جعلني أسأل نفسي: هل هذا النقل الذي قرره المجلس القضائي له صلة بالحكم, أم جاء نتيجة السهو بسبب طول القائمة للتنقلات التي قررها, أم يعود ذلك إلى ما يلائم مقتضيات العمل? ذلك أنه لشدة حرصي على الحريات الدستورية, فقد خطرت ببالي وساوس بشأن نقل القاضي الدكتور ناصر السلامات, استصحاباً لما استعادته ذاكرتي من الماضي والقياس على ما حدث في هذا الماضي, ولكن ثار صوت في داخلي يُذكّر بحسن النية, ليكبح جماح تلك الوساوس التي لم أستطع تجنبها, انطلاقاً من أن يكون ما حدث للقاضي قد جاء على سبيل السهو أو استدعته مقتضيات العمل.
وكواحد من أسرة القضاء الواقف أقول, أنه لا يفوت المجلس القضائي الكريم أن الأحكام التي تتعلق بالحريات, كانت شحيحة وقليلة في فترة الأحكام العرفية, ولم يُعط القضاء فرصة خلال تلك الفترة لتتراكم لديه الخبرة المعرفية في مجال القضاء الذي ينظر في قضايا الحريات. ومنذ أن بدأنا ما أصبح يُطلق عليه العهد الديمقراطي, بدأ قضاؤنا يتلمس طريقه في هذا المجال, انطلاقاً من أن حرية الرأي هي العمود الفقري لأي حكمٍ ديمقراطي. وليس من السهل اكتساب البعد المعرفي في موضوع إصدار أحكامٍ تتعلق بالحريات, إلا من خلال الواقع العملي للقاضي, الذي يدفعه إلى البحث والتنقيب في أحكام القضاء المقارن وفي كتب الفقه المقارن, للوصول إلى القرار الذي يطمئن إليه ضميره في الوقائع المعروضة عليه. وكلما زادت الخبرة, زاد تراكم المعرفة وقاد ذلك على أحكام قضائية ناضجة, كمحصلة للتخصص بهذا الشأن.
وأعتقد أن ما أتمناه لقضائنا بهذا الشأن, هو ما يتمناه معالي الأستاذ راتب الوزني رئيس المجلس القضائي والأساتذة الأفاضل أعضاء المجلس, الذين أُكن لهم كل الاحترام والتقدير.
حفظ الله الوطن وحمى شعبه, والله من وراء القصد .