لا مبررات للفرع الأدبي


منذ أكثر من نصف قرن والتعليم الثانوي في الأردن يضم في المسار الأكاديمي فرعين رئيسين هما الفرع الأدبي والفرع العلمي. فهل لا زالت الحاجة إلى الفرع الأدبي قائمة حتى اليوم؟ من المفترض أن الغاية من تنويع المسارات التعليمية والاختصاصات هو توفير فرص تعليمية مختلفة أمام الطالب بحيث يختار من بينها ما يتناسب مع قدراته وميوله كي يحقق بهذا الاختيار ذاته ويبني مستقبله الوظيفي ويكون عنصرا فاعلا في بناء وطنه.

ولكن واقع الحال أن معظم الطلبة يتجهون نحو الفرع الأدبي هربا من الفشل، وخاصة الفشل الذي قد يواجهونه في الرياضيات والفيزياء والكيمياء. فالطالب يختار و(يحفظ) ويجتهد كي لا تحكم عليه وزارة التربية والتعليم بأنه "راسب". أي أن توجه الطالب نحو الفرع الأدبي ليس اختيار وإنما هو مسار إجباري وملاذ آمن كي يحمي الطالب نفسه من آثار سياسات تربوية لم تستطع الخروج من دائرة فرز الطلبة إلى ناجح وفاشل.

ونجحنا... فتأتي المصائب تباعا! فليس فقط الخيارات في الدراسة الجامعية المتاحة أمام الطالب المتخرج من الفرع الأدبي محدودة مقارنة بخريجي الفرع العلمي، بل أيضا حين يتجه الطالب إلى دراسة التخصصات المتاحة لا تكون – في الغالب – الخيار الأول للطالب حين تم ملء نموذج القبول التنافسي. فكم نسبة الطلبة الذين يتوجهون في المرحلة الجامعية – عن رغبة - إلى دراسة التخصصات التالية: الفلسفة، والعلوم السياسية، وعلم النفس، وإدارة الأعمال، وتربية خاصة، وعلوم إدارية، واقتصاد، وفنون جميلة، ومحاسبة، وتخصص لغات أجنبية؟ وتخرجنا.. نجد بأن هذه التخصصات وغيرها كثير غير مطلوبة لا في القطاع العام ولا في القطاع الخاص، ومعظمها صنفها ديوان الخدمة المدنية بـ "الراكدة" أو "المشبعة" للذكور والإناث.

مبررات إلغاء الفرع الأدبي..
ألغت وزارة التربية والتعليم بعض فروع الدراسة الثانوية مثل فرع الإدارة المعلوماتية والتعليم الصحي وذلك بهدف تحسين مستوى مخرجات التعليم، ولكن هذا الإجراء غير كاف حيث لا بد من إعادة النظر في كافة مسارات التعليم الثانوي، وعلى رأسها الفرع الأدبي، وذلك للأسباب الآتية:
أولا: معظم التخصصات الجامعية التي يدرسها الطلبة المتخرجين من الفرع الأدبي لا تناسب احتياجات سوق العمل وغير مطلوبة لا في القطاع العام ولا في القطاع الخاص.
ثانيا: عدم الانسجام بين الخطة الدراسية للفرع الأدبي والأولويات الاستراتيجية ومبادرات الرؤية الوطنية للتعليم (الأردن 2025) خاصة فيما يتعلق بأولوية تعزيز المطابقة بين البرامج التعليمية واحتياجات سوق العمل وأولوية توسيع شبكة التدريب المهني وتشجيع الالتحاق به. فرغم كثرة الموضوعات الدراسية التي يدرسها الطالب في الفرع الأدبي إلا أن معظمها لا تلائم احتياجات سوق العمل، ولا تسجم الخطة الدراسية للفرع الأدبي كذلك مع أهداف التنمية المستدامة (الهدف الرابع - رؤية الأمم المتحدة للتعليم عام 2030). الأمر الذي يتطلب مراجعة جادة لمسارات التعليم الثانوي وإجراءات تترجم الرؤى إلى سياسات وبرامج ملائمة للاحتياجات.
ثالثا: ضعف الخطة الدراسية للفرع الأدبي في تأهيل الفرد واكسابه المهارات التي يحتاجها في القرن 21، حيث دخلت العلوم والرياضيات في كل مجالات الحياة الشخصية والعملية، وأصبحت معظم المهن تتطلب مهارات عالية ومتطورة، وأفراد قادرين على التفكير بشكل إبداعي وقادرين على اتخاذ القرارات وحل المشكلات، وتعد المعرفة العملية وعمليات العلم متطلب أساسي للحصول على هذه المهارات. فغالبية دول العالم تستثمر الأموال الطائلة لتنمية القوى البشرية المثقفة علمياً وتقنياً تكنولوجيا، فليس من المعقول أو المقبول في ظل كل هذه التداعيات العالمية لا زال النظام التعليمي في الأردن يقوم بتخريج نسبة كبيرة من طلبة مدارسنا في الفرع الأدبي.
رابعا: توجه نسبة كبيرة من طلبة المرحلة الثانوية إلى الفرع الأدبي رغم مواجهة الطلبة الخريجين من الفرع الأدبي في كل عام بعض القضايا للدخول إلى الجامعات منها محدودية التخصصات، والتحاقهم بتخصصات لا تتوافق مع طموحاتهم وميولهم.

على طريق إلغاء الفرع الأدبي..
• ضرورة مراجعة المسارات المتشعبة للتعليم الثانوي والتؤأمة التاريخية بين العلمي والأدبي وكأنها ثنائية لا تنفك غير قابلة للنقاش، والتأكيد على الاسراع في الغاء نظام ناجح – راسب وذلك لتمكين الطالب من الاختيار السليم إلى أين يتجه في مرحلة ما بعد التعليم الثانوي وفقا لقدراته وميوله الحقيقية.
• البحث عن بدائل مناسبة كأن يصبح المسار الأكاديمي لا يتفرع إلى فروع أخرى وإنما يتم فيه دمج الموضوعات الدراسية الخاصة بالفرع العلمي مع الأدبي بما يتوافق مع حاجات المجتمع وسوق العمل، والتوجهات العالمية، وانسجاما مع الاولويات الاستراتيجية لرؤية الأردن 2025 ورؤية الأمم المتحدة للتعليم لعام 2030، وبحيث يكتسب جميع الطلبة في هذه المرحلة الكفايات التعليمية للقرن 21 والتي تبنتها أكثر 80% من دول العالم. وهذا سيتضمن بطبيعة الحال تقليل عدد المواد الدراسية للتركيز عمودياً بشكل أكثر تعمقاً خاصة في مواد اللغات والعلوم والرياضيات.
• استمرار البحث عن بدائل مناسبة، فمثلا قد يكون الأنسب للحالة الأردنية الاستفادة من النموذج الهولندي، حيث يتم تقسيم التعليم الأكاديمي إلى مسارين. مسار يختص بالعلوم النظرية البحتة Pure Sciences الذي يتيح الفرصة أمام الطلبة الحصول على معارف ومهارات دقيقة متعمقة لمواصلة تعليمهم الجامعي حتى الدكتوراه. والمسار الثاني يختص بالعلوم التطبيقية Professional Applied Sciences يلتحق به الطلبة الذين يرغبون في اتمام المرحلة الجامعية الأولى ثم الالتحاق بسوق العمل في التخصصات المهنية التطبيقية المختلفة كالتخصصات الطبية والهندسية والتعليمية. مع الإبقاء على مسار التعليم المهني Vocational Education والتوسع فيه.
• كمرحلة أولى ضرورة تبني سياسات وإجراءات تهدف إلى الحد من أعداد الطلبة الملتحقين بالفرع الأدبي، وزيادة أعداد الطلبة الملتحقين بفروع المسار المهني.
• الاهتمام بإدارة التغيير ومعالجة النتائج التي ستترتب على إلغاء الفرع الأدبي بحيث لا يحدث خللا في التشكيلات المدرسية ولا في إدارات وزارة التربية.
• وعلى مستوى التعليم العالي لا بد من استحداث تخصصات جامعية تقنية تطبيقية جديدة، وتسهيل إجراءات ترخيصها، والحد من أعداد المقبولين في التخصصات غير التطبيقية، والتوقف عن ترخيصها.

الدكتور قاسم النعواشي
مستشار تربوي، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP
بريد إلكتروني: qasem@srd.edu.jo
تلفون: 96566262820+ أو 962799260108+