عهد التميمي الأيقونة الفلسطينية الشقراء
من بين ركام الصور الكثيرة التي لا تثير الخيال، وتبدو نسخاً كربونية عن سواها، تطلّ صورة عهد التميمي، الفتاة الفلسطينية التي هزّت المستقر في الخيال والصورة، والتبست بسببها المعايير واختلّت، وصار من يملك الحجة المغالية في المديح، كمن يملك نقيضها، في مشهد نادر وغنيّ بدلالاته.
ولعل من المهم التذكير بأنّ التميمي (16 سنة) ليست أولى الفتيات الفلسطينيات اللائي يعتقلهنّ الاحتلال الصهيوني الغاشم، لكنها في أعقاب الغضبة الفلسطينية الهادرة، احتجاجاً على قرار ترامب نقل السفارة الأميركية للقدس، أضحت في نظر الكثيرين أيقونة فلسطينية للنضال والمقاومة والتضحية والشجاعة، لكنها في نظر آخرين غير ذلك تماماً.
وأما الفريق الثاني المعترض على الاهتمام الواسع بعهد التميمي، فيأخذ على الفتاة أنها غير محجّبة، وأنها تتحدى الجنود الإسرائيليين على نحو استفزازي يتوخى «الشو» أكثر مما يتوخى تحدي بنادق الاحتلال. كما راح بعضهم يعيب عليها بياض بشرتها وشعرها الأشقر المشاغب، فرأوا أنّ ذلك «الموديل» لا يتسق وصور المناضلات، كأنما ثمة صورة مستقرة وناجزة للمناضلات والمناضلين، وكأنّ المعترضين السلفيين، بعد أن تمكنوا من مصادرة الماضي، صاروا مدفوعين بقوة غامضة لمصادرة المستقبل، وإقفال باب التنبؤات.
ولم يتوقف موزعو صكوك الوطنية عند حجاب الفتاة الفلسطينية، بل رأوا في صورتها و «ملابسها المتحررة» تمثيلية مقصودة من صنع الإعلام الصهيوني. ولم يكن السفير الإسرائيلي السابق في الولايات المتحدة، وعضو الكنيست مايكل أورن، أكثر عقلانية من أولئك، فقد غرّد على «تويتر»، معرباً عن شكوكه بأن يكون «أفراد عائلة التميمي أقارب بيولوجيين». وعرّض نفسه للسخرية عندما مضى في ترهاته ومزاعمه بأنّ عائلة التميمي «تستأجر الأطفال وتلبسهم ملابس أميركية الطراز».
وفي السياق ذاته، حاول أكاديمي إسرائيلي تسويق صورة وردية لجيش الاحتلال، عندما راح يزعم بأنّ الفتاة الفلسطينية «لو كانت في مصر لأطلق الجيش عليها النار»، متناسياً الوحشية والهمجية والقتل بالرصاص الحي التي أضحت «نياشين» عار على صدور جنود الاحتلال.
وعلى رغم أنّ صور التميمي غطت بعض محطات الحافلات في العاصمة البريطانية لندن، مزيّنة بشعارات تطالب بالإفراج عنها، فإنّ هذا المناضلة الصغيرة لم تلقَ الاهتمام العالمي المنشود من المجتمع الدولي وهيئات الدفاع عن الأسرى والمعتقلين، ولم تحظَ، ولو بالقليل مما حظيت به الفتاة الباكستانية ملالا يوسف زاي التي واجهت مصيراً مشابهاً، لكنّ التعاطف العالمي العاصف معها جعل من قضيتها عنواناً للحرية والمقاومة، ما أهّلها لنيل جائزة نوبل للسلام عام 2014.
«لقد تعوّد كفي على جراح الأماني» قالها، ذات حزن، شاعر فلسطين وضمير شعبها محمود درويش. لذا، ليس في مستطاع هذا الشعب الثائر أن يتوسل الوجدان العالمي من أجل الوقوف إلى جانب شمعة الحق الشقراء التي هزّت المعبد الإسرائيلي المتصدّع؛ فتساقطت مزاعمه كالغبار. وسواء امتثل العالم لإرادة الحق، وناصر رموزها كجزء من مناصرة الذات الكونيّة التي تتحدى الظلم والهيمنة، أم لم يفعل، ستبقى عهد التميمي أسطورة فلسطينية منبعثة كالعنقاء من الرماد، وأيقونة نضالية تلهم الأحرار حتى وهي في سجنها. وليس أدلّ على ذلك من إجابتها المتحدية الهازئة للقاضي الإسرائيلي حين سألها، وهي محاطة بعناصر الشرطة في قاعة المحكمة العسكرية بسجن عوفر، غرب رام الله: كيف صفعتِ الجندي، فأجابته: «انزع الأصفاد من يدي لأُريك كيف»!