القُدس مسقط الرأس وأمنية القبر


لم ألتفت إلى الوراء، حين غَادرتُ القُدس.
لم أفعل مثل أبي عبد الله الصغير، بعد أن سلّم مفاتيح غرناطة، فصار رَمز مَهزلة تاريخية سَمجة، ولم أفعل مثل زوجة لوط، حين تَطلّعت خلفها، فاستحالت عموداً من الملح، فذلك الطفل، الصبي، لم يكن ليعي أنّ مدينته ستسقط بعد قليل. كانت هناك مُغامرة، هي أوّل مَهام عمري: أن أقود قائد الشاحنة، التي تحمل متاع البيت، مِن مكان، هو مسقط رأسي، وحنيني الآتي، المُزمن، إلى مَكان سيكون مسقط قَلبي، ومَكمن مَتعب هجري لروحي.
لم أبك، أو حتّى أُدمع، فلم أكن أعرف مَجاهيل العُمر الآتية، ولا سبب الرحيل المفاجئ، فقد تملّكتني دَهشة الذهاب إلى مكان أحبّه، يعيش فيه كلّ أقاربي، ولو عاد بي العُمر أكثر من نصف قرن من الزمان، لوقفت أمام والدي، وأعلنتُ رفضي الخروج، ولكنّه، هو أيضاً، لم يكن يعرف أنه يذهب إلى المجهول، وسيغادر مُضطرّاً مَدينة أحبها، ولن يَعود إليها: القُدس، كما غادر رغماً عن أنفه، وأنف ضمير البشرية، مدينته التي عَشقها: يافا.
كُنتُ سأقول: لا، وذلك تَرَفَ لم أملكه، ولا يُمكن أن أملكه، الآن، بأثر رجعي، فالقدس التي تَعبق روائح توابلها وبخوراتها أنفي، كلّ ما مَشيت في سوق عتيق، ما زالت تسكنني، وقد سكنتُ الكثير غيرها، الكثير الكثير.
صحيح أنّ القُدس ليست قضية شخصية لأيّ أحد، وهي تعني لي مكان الميلاد داخل السور المُقدّس، وأمنية القبر، بل هي إنسانية يُعنى بها ضمير البشر، ولكنّني لم أملك وأنا أتابع ما يجري الآن أن أضع يدي على قلبي خوفاً وتوجّساً من أن يكون واقعنا اليوم، كما كان واقعنا حين فقدناها في الخامس من حزيران من العام ١٩٦٧، وألاّ يكون لي فيها قبر.