مقاربة جديدة للسياسة العربية المشرقية



قدم الفلسطينيون شهداء وجرحى في هبة شعبية عارمة وردود الفعل الشعبية عندنا عظيمة والموقف الرسمي ممتاز ونلعب دورا محوريا في التحرك العربي والإسلامي، إنما كل هذا مختبر ومعروف ولا يكفي، والقضية ليست قرار ترامب الأخرق الذي لا يغير شيئا على الأرض، بل في دلالاته التي تستحق التفكير مليا في أنفسنا ووزننا عند الولايات المتحدة وتموضعنا في علاقات القوى الإقليمية والصراع العربي الإسرائيلي ومستقبلنا للعقدين القادمين.
عندما تعدنا الإدارة الأميركية بمشروع للسلام في المنطقة ثم تكون أولويتها استرضاء اليمين الإسرائيلي الاستيطاني الأشد تطرفا بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل فكم في ذلك من دلالة على طريقة ترامب في التعاطي معنا ومع قضايا المنطقة؟! لقد ضربت في المقال الماضي مثال تركيا التي وصلت إلى لحظة خطيرة من الصدام العسكري المباشر مع روسيا، ثم راجعت خطها وقامت باستدارة شاملة في تشخيص ومقاربة جديدة للموقف ولمصالحها، وصنعت ثلاثية تركية إيرانية روسية همّشت الدور الأميركي الذي استسلم للثلاثية وترك لها معالجة الملف، وقد تحققت إنجازات ملموسة في استانا واتفاقيات خفض التوتر، وبالتوازي أنجز الأردن لنفسه مباشرة اتفاقية خفض توتر في الجنوب السوري مثبتا مبدأ منع اقتراب الميليشيات الإيرانية والحليفة من الحدود الأردنية كقضية أمن وطني لا تهاون فيها، كما منع من قبل اقتراب "داعش" وقوات متطرفة أخرى من حدودنا.
لقد انهار النظام العربي بصورة مأساوية خلال السنوات الماضية، وانهارت الدولة الوطنية في سورية واليمن والعراق وانفتح صراع مذهبي شامل سني شيعي. وهو يغلف بالطبع النفوذ والتمدد الإيراني الذي بات مرعبا على وجه الخصوص للسعودية والخليج. وفي هذا السياق تندرج المواجهة في اليمن ثم المواجهة مع قطر. وكان اقتراحي في المقال الماضي إعادة النظر في هذه المواجهة، وأنا لم أقلل في أي وقت من خطر وأذى الاختراق الإيراني الفج والمؤذي في العراق وسورية ولبنان، وامتطاء المظلومية الشيعية في الخليج، وعندما انقلب الحوثيون على التوافق الوطني واختطفوا السلطة بالقوة العسكرية في صنعاء ووصلوا عدن كنت مع عاصفة الحزم، لكن لننظر إلى موقف الولايات المتحدة الذي يقف على مسافة واحدة بين السعودية وقطر التي تدير سياسة غريبة جدا تنحاز لإيران.
ولننظر إلى الولايات المتحدة التي تدعم القوى السنية المتطرفة وتستثمر في الإرهاب المناهض للأنظمة العربية، وتبتز الأنظمة المعتدلة ماليا وسياسيا لحمايتها من ايران التي تزايد على العرب "المتخاذلين" بالعداء لإسرائيل، ومن خلال هذا الادعاء ترعى محور "الممانعة"، فقلت أيضا في نفس المقال هاتوا نقول للميليشيات الإيرانية وهي تجوب أرض سورية طولا وعرضا إننا لا نمانع إقطاعها كامل شريط المواجهة مع إسرائيل على حدود الجولان!
السياسة العربية تائهة مستضعفة، والكتلة العربية المشرقية مخترقة محطمة تستقوي عليها القوى الإقليمية الجارة من جهة وتريد إسرائيل إخضاعها بالتطبيع، دون التراجع قيد أنملة عن الغطرسة والاحتلال والعدوان، ويعاملها السيد ترامب باحتقار وجشع! ويستعرض غطرسة وجهلا سياسيا بشعا. ليس لدينا ما نخسره بمغادرة السياسات الراهنة، إيران تبقى جارا أبدا موجودا منذ فجر التاريخ وإلى الأبد ندخل معه في حروب نحتلها وتحتلنا وهي تحتل الآن نصف العراق ونصف سورية ونصف اليمن. وبالمناسبة ليست هذه المرة الأولى في اليمن فقد دخلت اليمن تحت ولاية الفرس في زمن كسرى أنو شروان الذي استعان به سيف بن ذي يزن لطرد الأحباش. وليس بالضرورة اليوم أن نبقى في صراع مفتوح تتمتع بعوائده الولايات المتحدة وإسرائيل ولا نكسب نحن شيئا.