الشاعر امجد ناصر: إنسوا الاصلاح في الأردن!
لم أكن متفائلاً بكل 'هيصة' الاصلاح في الأردن. فمنذ أول خطوة للنظام تجاهه غلبني سوء الظن. وهذا له أسبابه 'البنيوية' كما يقول المثقفون. وفي بلادنا، التي تكالب عليها مفسدون وعديمو خيال وخائرو همَّة، هناك مثلٌ شعبيٌّ سائر يقول: لو بدها تشتي كانت غيَّمت! لم تكن ثمة بوادر مطر. فهناك لا تسقط الأمطار إلا بعد أن تبلغ القلوب الحناجر، وربما مع ذلك، لا تفعل. وإذا كانت الغيمة تعتبر مؤشراً على مطرٍ محتملٍ فلم تكن حكومة معروف البخيت هذه الغيمة، بل لعلها كانت غمامة صيف، لا من حيث لطفها وخفَّتها، ولكن من حيث عقمها. غيمة لا تبشِّر بقطرة مطر واحدة. حديثي عن الغيم والمطر قادم من مخيلة طفل كان يرى مُسنّي بلاده يرفعون أيديهم الى السماء ويبتهلون من أجل سقوط المطر. حالنا، في الأردن، مع 'الإصلاح' كحال صلوات الاستسقاء. أيدٍ معروقة. حلوق جافة. ابتهالات. ولكن كل هذا لا يضمن سقوط المطر في أوانه، أو حتى بعد أوانه. فالأمر يتعلق بالرجاء أكثر من أي شيء آخر، والرجاء قد يستجاب وقد لا يستجاب.
أهي لعنة مثلاً؟
ربما.
قد تكون لعنة الجغرافيا. قد تكون لعنة التكوين الأول. قد تكون لعنة الديموغرافيا: تلك الفزَّاعة التي طالما لوَّحت بـ'مخاطرها' غرفة النظام السوداء، وقد تكون في شلل الإرادة. وقد تكون، أخيراُ، في كل تلك الأسباب مجتمعة. المهم في الأمر ألا أمل، على ما يبدو، في إصلاح حقيقي، عميق، يغيّر شكل الحياة السياسية في الأردن وجوهرها طالما ظل الوضع على ما هو عليه الآن. لقد كان طموح الاردنيين (وشعارات حراكهم الخجول، المتردّد، المطبوع بخوفٍ مقيم) أقل، بكثير، من مطامح التونسيين والمصريين واليمنيين.. والسوريين الآن. شأنهم في ذلك شأن أشقائهم البحرينيين، أو المغاربة، الذين ارتضوا الاصلاح سبيلاً وليس اسقاط النظام. لكن حتى هذا الطموح الواقعي، بل المتواضع، بل المسؤول جداً، لم يلق تقديراً وتفهّماً من قبل النظام. وها هم المغاربة يخطون خطوة معقولة (لا أقول عميقة وجذرية) في اتجاه اصلاح حياتهم السياسية العامة، بمبادرة من الملك نفسه، فيما تدخل عملية الاصلاح في الاردن، أمام ناظري الملك، في نفق طويل من اللجان والشدِّ العكسيِّ وشراء الوقت.. في انتظار انكسار موجة التغيير التي تلطم، بقوة، صخرة الاستبداد العربي.
منذ البداية كان الأمر واضحاَ، أي منذ نثر الملك أعواد كنانته، المطواعة، فاختار من بينها الجنرال معروف البخيت. كان ينبغي للذين يتطلعون إلى إصلاحٍ جذريٍّ يتجاوز درء رياح التغيير التي تعصف بالاستبداد أن يعرفوا أن البلاد، بهذا الخيار الرخو، المجرَّب قبلاً، ليست مقْدِمةً على ذلك. وأن الملك، صاحب السلطات شبه المطلقة، لن يتخلى عن تلك السلطات التي تمَّ تعظيمها، دستورياً، في غياب حياةٍ سياسيةٍ صحيّةٍ في البلاد، وبعيداً عن إرادة 'الأمة' عقداً بعد عقد، وملكاً بعد ملك.
وها هي الأيام والأشهر تمرُّ منذ اطاحة حكومة سمير الرفاعي بضغط متصاعد من قبل الجمهور والقوى السياسية في البلاد، وعلى وقع السقوط المدوّي لنظامي زين العابدين بن علي وحسني مبارك، واندلاع ثورات ليبيا والبحرين واليمن التي اصطكت بفعلها رُكَبُ الأنظمة العربية قاطبة وبشَّرت بربيع عربي طال انتظاره. كانت تلك لحظة خلخلة في الجو السياسي العربي بأسره. لحظة اصطكاك رُكَب، وارتجاف أعماق، وتحسّسٍ للكراسي. لكن من يعرف طبيعة السلطة (أيّ سلطة) يعرف أنها لا تتخلى عما بين يديها طوعاً. السلطة لا تفعل ذلك إلا مكرهة. فلسنا، في العالم العربي، أمام حكام حكماء قادمين من غبار التاريخ الذهبي وبطون الكتب. هؤلاء لا وجود لهم بيننا اليوم، وربما لم يوجدوا قط. فمعظم حكامنا العرب الراهنين هم مغتصبو سلطات أو وارثو سلطات عن مغتصبين سابقين، لا عقد اجتماعياً حقيقياً بينهم وبين الناس، وما يسمى في العالم العربي دستورا ليس هو 'العقد الاجتماعي' الذي أتحدث عنه. فهذه الدساتير ليست سوى شريعة القوة التي سنَّتها الدبابة وأجهزة الأمن والاستقواء بالأجنبيّ واستضعاف الشعوب، بل احتقارها. وحتى هذه الدساتير التي هي شريعة الحاكم المؤلَّه وطبقته المسيطرة لا تحترم.
' ' '
كل الذين يخوضون في أمر الإصلاح في الأردن يرجعون بطء ما يسمى 'مسيرة الإصلاح' وتسويفها ومماطلتها إلى حكومة الجنرال معروف البخيت. صحيح أن معروف البخيت ترأس حكومة سابقة حدثت في عهدها أكثر الانتخابات البرلمانية الأردنية تزويراً، وعقدت، في ظلها، 'صفقة الكازينو' التي تثور في وجه حكومته اليوم، لكن صحيح، أيضاً، أن رؤساء الحكومات في الأردن، خصوصاً في عهد الملك عبد الله الثاني، لا قدرة لهم (ولا صلاحيات) لاحداث نقلات عميقة في حياة الأردنيين.
فأين المشكلة إذن؟
أين يكمن الخلل؟
إنه أمر يبعث على الحيرة. فكتاب التكليف الملكي لحكومة معروف البخيت يكاد يرقى الى ما يطمح إليه أكثر الأحزاب الاردنية طلباً في التغيير. كلام الملك الى نخب سياسية ونقابية واجتماعية التقاها (ويواصل لقاءها) لا يختلف، في مضمونه، عن 'خطاب التكليف'. حديثه الى الصحف الأجنبية يدور في الفلك نفسه. لكن على أرض الواقع هناك العكس: لجان، توصيات، استقالات من الحكومة (أكثرها دويّاً وكشفاً للمستور تلك التي أعلنها وزير الإعلام السابق طاهر العدوان)، تعديل حكومي، بلطجية يتحولون إلى ظاهرة غير مسبوقة، بالمطلق، في الحياة العامة الأردنية يهددون المتظاهرين ويعتدون على وسائل الإعلام، عنف أمني يطال المتظاهرين، سحب للجنسيات، انخراط متزايد في مجهود الثورة المضادة على المستوى العربي... كل ذلك في انتظار أن تنكسر موجة التغيير وتسترد الأنظمة المترنحة توازنها مرة أخرى.
إذا كان البخيت ليس راغباً، أو قادراً (والأخير هو الصحيح) على دفع 'عجلة الاصلاح' في الأردن عكس إرادة الملك فمن هو المسؤول إذن عن تلكؤ هذه 'العجلة'؟
هل هناك سلطة أعلى من سلطة الملك صاحب السلطات شبه المطلقة في البلاد؟
أهي المخابرات مثلا؟
لا أحد يصدق أن بمقدور جهاز المخابرات (لحسن حظ الأردنيين أن هناك جهازاً أمنياً قمعياً واحداً) الوقوف في وجه إرادة الملك، خصوصاً وأنه يأتمر بأمره وليس بأمر رئيس الحكومة رغم تبعيته الإدارية، الشكلية، لوزارة الداخلية.
أهو الجيش؟
ليس للجيش الأردني، على ما أعلم، دور في مجريات السياسة اليومية في البلاد، بل يمكن أن نستدل من مساهمة ضباط متقاعدين في الحراك الشعبي رغبة في الاصلاح والتغيير تذهب الى حد الاعتراض على اتفاقية السلام مع اسرائيل.
أهي العشائر الأردنية؟ ولكنا رأينا انخراطاً ويافطات باسم عشائر أردنية في التظاهرات التي تنادي بالاصلاح، كما رأينا أن الحراك، في هذا السبيل، يكاد ينحصر، هذه الأيام، في المناطق التي تقطنها العشائر الأردنية وليس في المدن الكبرى كعمان والزرقاء.
لم يبق إلا الشعب بمختلف منابته وأصوله ومكوّناته.
هل الشعب الأردني ضد الإصلاح؟
لا يعقل أن يكون كذلك، خصوصاً ان الحديث عن الاصلاح يدور في ظل النظام القائم، وأن فئات عديدة من الأردنيين نزلت الى الشارع، ولا تزال تفعل، للمطالبة بمحاربة الفساد واحداث اصلاحات عميقة في بنية النظام تؤدي الى حياة ديمقراطية حقيقية وليس ديكور الديمقراطية القائم الذي لم يعد يقنع حتى الذين صمَّموا هيكله الفارغ.
المشكلة، في رأيي، تكمن في عدم رغبة الملك في إحداث اصلاحات ستحدُّ، إن حصلت، من سلطاته التي تكاد تشمل كل شاردة وواردة في مصائر البلاد. اختيار الملك لمعروف البخيت لم يكن اختياراً خاطئاً. ليس لأنه لا يعرف من هو معروف البخيت، ولا لأنه نسي أن الرجل ترأس حكومة سابقة حدثت في عهدها انتهاكات كبرى بحق الأردنيين، وبالأخص، حيال طموحهم للديمقراطية. الملك يعرف من اختار وفي اختياره رسالة كان على الأردنيين أن يلتقطوها من البداية، فما سيحصل، بعد لأي ولجان وتعديل حكومي وشراء وقت، لن يكون سوى ترقيع لما هو قائم، أو تجميل في افضل الأحوال، أما نقلة التغيير الجذرية، المكرسة بنصوص دستورية صريحة، فلن يقدر لها أن تحدث. لن تحدث كمكرمة، أعطية، هدية من الملك الى شعبه. ولكنها ستحدث إن تصاعد الحراك الجماهيري الأردني أكثر مما هو عليه الآن، وغادر قسم كبير من الأردنيين وضع 'الجالية' وخرج الى الشارع. عندها سيحدث ما يريده الأردنيون، وهم لا يطلبون المستحيل.