"الأوتوقراطية العلمانية" كبديل وحيد..!



يكاد يستحيل التنبؤ بدقة بوجهات المنطقة على الصعيد الجيوسياسي. هناك نبوءات بنشوب المزيد من الحروب التي قد تعيد ترسيم حدود، وتدمر دولاً وتنشئ أخرى. وهناك في المقابل أمل ضئيل بانطفاء نقاط الاشتعال وقدوم شيء من الاستقرار بعد كل هذه الفوضى. لكن الأصعب على الرصد أيضاً هو الاتجاهات الفكرية-الاجتماعية التي يمكن أن تسفر عنها هذه الهزة الكبيرة التي ضربت المنطقة. هل ينتج نظام اجتماعي-سياسي- اقتصادي منفتح ومستنير يأخذ المنطقة نحو الديمقراطية والتقدم وحقوق الإنسان؟ هل ستعود المنطقة إلى حالها القديم، أم تنشأ فيها تكوينات جديدة كُليّة؟
إذا كان التبسيط ممكناً، فإن "الربيع العربي" الذي بدأ بوعد الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي، سرعان ما أصبح صراعاً على السلطة بين الدين السياسي والنظام الأوتوقراطي القديم نفسه. وتبين أن البديل الثالث التقدمي لا يمتلك الأدوات للمنافسة. والآن، يبدو أن المعركة بين القوى الدينية والأنظمة الأوتوقراطية أصبحَت تُحسم لصالح الأخيرة. وساعد على ذلك التجسُّدات العنيفة للدين السياسي، ممثلة بشكل أساسي بـ"داعش".
هذه الاتجاهات، يرصدها تقرير نشرته مجلة "الإيكونوميست" أوائل هذا الشهر، والذي يقول إن الأنظمة السياسية الأوتوقراطية في المنطقة "تدفع العالَم العربي ليصبح أكثر علمانية". ويستشهد التقرير باستطلاع أجراه "البارومتر العربي"، والذي خلص إلى أن "المنطقة تصبح أقل دينية" بشكل عام. ووجد التقرير أن "الناخبين الذين دعموا الإسلاميين بعد الربيع العربي أصيبوا بخيبة الأمل من أدائهم وغيروا آراءهم. وفي مصر، انخفض الدعم لفرض الشريعة الإسلامية من 84 % في العام 2011 إلى 34 % في العام 2016".
يرى تقرير "الإيكونوميست" أن الحكام الأوتوقراطيين الذين حاولوا في السابق احتواء الإسلاميين، أصبحوا يرون فيهم الآن أكبر تهديد لحكمهم. مع معرفتهم بأن كبح نفوذ رجال الدين يُضعف قوتهم هم أيضاً، فإن الكثيرين منهم أصبحوا مهتمين بصناعة مجتمعات أكثر علمانية وتسامحاً. لكنّ هذه الإصلاحات لا تمتد إلى المجال السياسي، كما يقول التقرير.
يستشهد التقرير باتجاه بعض دول المنطقة العربية إلى تخفيف القيود الاجتماعية والدينية، وبالحملة الإقليمية ضد الحركات الإسلامية وحظرها. وفي المقابل، ثمة اتجاه إلى توسيع الانفتاح الاجتماعي والمزيد من إشراك المرأة في المجتمعات. ويشير التقرير بشكل خاص إلى التحولات الناشئة في السعودية، ومنها وقف عمل الشرطة الدينية وإقالة الآلاف من الأئمة، وتشديد الرقابة على النصوص الدينية المزيفة والمتطرفة، وكذلك السماح للنساء بقيادة السيارات ودخول الملاعب الرياضية، وتشجيعهن على العمل.
يشير التقرير إلى أن هذه الاتجاهات ليست عاملة في كل مكان، حيث تظهر استطلاعات للرأي تزايد دعم الشريعة والتعاطف مع الحركات الإسلامية في بعض الدول العربية التي توصف بأنها "ذات حكومات أقل دينامية". لكنه يشير أيضاً إلى أن "المشقة الاقتصادية التي يُنظر إليها على أنها تغذي حركات المعارضة الإسلامية، قد تؤدي أيضاً إلى تآكل الآراء التقليدية بشأن دور المرأة في المجتمع. ومع ارتفاع التضخم وتخفيض الدعم في عدة بلدان، لم تعد الرواتب كافية لدعم الأسرة. ولذلك يشجع الأزواج زوجاتهم على العمل".
يخلص التقرير إلى أن "العديد من العرب مستعدون للتخلي عن الحقوق السياسية في مقابل الحريات الشخصية". ويبدو أن هذا أصبح البديل الوحيد المتاح بعد الخيبات الشعبية المتوالية. وقد دفعت بدائل صراع "الربيع العربي" الناس إلى القبول بنظام تندر فيه الحقوق الديمقراطية ويحرمهم من المشاركة السياسية، في تكوين يمكن وصفه بـ"الأوتوقراطية العلمانية".
المشكلة في هذا النموذج، هو أنه يتعارض مع أفكار الدولة المدنية وحكم القانون. وهو يسمح أساساً ببقاء النُظم الأوتوقراطية التي تصادر حق الناس في المشاركة في الحكم. ويعني الاضطرار إلى القبول بأي هبات فوقية تراجعاً عن تطلعات الشعوب إلى الديمقراطية كشرط لتحقيق العدالة الاجتماعية ومساءلة الحكومات والتصدي للفساد الذي يغري به تركز السلطة. ومن الطريف ملاحظة أن "الأوتوقراطية العلمانية" كانت موجودة بشكل ما قبل "الربيع العربي" في شكل بعض الأنظمة المنفتحة نسبياً على التحديث الاجتماعي، لكنها أصبحت تُعد الآن إنجازاً مقارنة بالبدائل الأكثر رجعية. ويبدو أن هدف الدولة العربية المدنية الديمقراطية قد تأجل إلى أجل غير مسمى.