نزعات الانفصال وتبعاتها

أخبارالبلد - وجهت الداخلية البريطانية نهاية الأسبوع الماضي، رسائل إلى رعايا أوروبيين تطالبهم بمغادرة المملكة المتحدة والعودة إلى ديارهم أو إلى أي وجهة أوروبية أخرى، لئلا تتقطع بهم السبل. وورد في الرسالة الصادرة عن وزيرة الداخلية آمبر رود ونشرت فحواها صحيفة «ذي اوبزرفر»، أن في وسع المعنيين ومعظمهم قادم من شرق أوروبا، التمتع في دول الاتحاد الأوروبي بما توفره لهم «المعاهدة الأوروبية حول حقوق الإنسان» من حق السكن والدراسة والعمل، بدل مواجهة التشرد وبالتالي الاعتقال على الأراضي البريطانية.


 

 

الناشطون المدافعون عن حقوق الإنسان رأوا في الرسالة تعبيراً فظاً عن عدم الاكتراث بالآخرين، وتسرعاً في تطبيق إجراءات «الطلاق» مع أوروبا (بريكزيت) قبل موعده المقرر في 2019.

 

 

ولم يتكبد أي من المسؤولين في حكومة المحافظين عناء الاكتراث بتوضيح أن مضمون الرسالة لا يعدو كونه ممارسة متبعة في سائر الدول الأوروبية، حيث تعطي القواعد المتفق عليها بين دول الاتحاد الرعايا الأوروبيين مهلة ثلاثة أشهر للبقاء في دولة أوروبية غير دولتهم، ويتعين عليهم بعدئذ إذا رغبوا في الإقامة تسجيل أسمائهم وذكر سبب بقائهم سواء للعمل أو الدراسة، من دون التمتع بحق الاستفادة فوراً من نظام الخدمات الاجتماعية.


 

 

لا شك في أن عدم اكتراث المسؤولين الحاليين في بريطانيا ينمّ عن فشلهم في إيجاد مخرج من المأزق الذي وجدوا أنفسهم فيه، إثر استفتاء العام الماضي على الخروج من الاتحاد الأوروبي، إذ تبيّن أن أياً من الذين روجوا لـ «بريكزيت» لا يمتلك «خريطة طريق» لـ «اليوم التالي»، وكأنهم لم يكونوا يتوقعون نجاحهم في «المغامرة» التي لم يتجاوز عدد الذين أيدوها نصف سكان المملكة المتحدة.

 

 

وعليه، لا يزال انعدام التصوّر الأمر الأساسي الذي يؤرق دوائر السلطة في لندن، خصوصاً مع ظهور فاتورة بعشرات البلايين من الجنيهات يتعيّن سدادها لبروكسيل، شرطاً لضمان «طلاق سلس» وتفادي حروب تجارية وسياسية عبر «القناة الإنكليزية» أو «بحر المانش» كما يسميها الفرنسيون.

 

 

ولا شك أيضاً في أن «المغامرة» البريطانية ساهمت في تشجيع نزعات الانفصال في القارة، وليس فقط داخل المملكة المتحدة، كما هي الحال بالنسبة إلى اسكتلندا التي استشعر انفصاليوها مبكراً صعوبات تعترض سبيلهم، أو كاتالونيا التي بدأ قوميوها يدركون فداحة الثمن الذي سيدفعونه بتكرار تجربتهم مع الجنرال فرانكو الذي وجّه ضربة قاضية إلى تطلعاتهم في أربعينات القرن الماضي.

 

 

ثمة من لا يزال ينظر إلى القضية من زاوية المشاعر القومية والديموقراطية العددية، حتى إن كبريات الشبكات الإخبارية وقعت في «فخ» المفاضلة ومحاولة قياس تعداد المشاركين في التظاهرات المؤيدة للانفصال في برشلونة ومقارنته بحجم المؤيدين للبقاء في إسبانيا، في حين إن القضية كما تظهر التجربة البريطانية تكمن في القدرة على سداد فاتورة تقرير المصير وتحمّل تبعاته، خصوصاً في ظلّ معارضة شرسة في عواصم «القارة العجوز».


 

 

في مثل هذا الوقت من العام الماضي، كانت التطلعات في أربيل كبيرة، بحجم مخاوف قابلتها في بغداد وعواصم مجاورة، لكن سرعان ما تبيّن أن الظروف تضافرت ضد التطلعات، فلا رضا عملياً من الدول الكبرى، ولا تأييد إقليمياً، إضافة إلى معارضة شرسة من جانب دولتين تمتلكان حدوداً مشتركة مع الإقليم الشمالي، يضاف إلى ذلك غياب الإجماع الداخلي، ما تجسّد في انقسامات طفت على السطح. وبوجود تلك العناصر مجتمعة، يبدو من المستحيلات الرهان على «غفلة من الزمن» لتمرير خيار بالغ الأهمية. وقد يكون بالتالي مطمئناً في أماكن أخرى في المنطقة، الإدراك مجدداً أن تصوّر التلاعب بحدود «سايكس بيكو» لا يعدو كونه سراباً.