فهد الريماوي يكتب :حين يستعر الجدل ويتقهقر العمل

فعلاً، اذا اراد الله سوءاً بقوم منحهم الجدل ومنعهم العمل·· فالجاري هذا الاوان في عموم بلادنا هو اللغو والثرثرة والجدل العقيم، بل الجدل لغرض الجدل، والسجال بهدف السجال، وتطعيج الكلام لغايات المناكفة والمزايدة والمهاترة، وليس ابتغاء وجه الحق والحقيقة، وبلوغ جادة الصدق والصواب، وتخليق القواسم الجامعة والنواظم المشتركة والبرامج الوطنية المفيدة والقادرة على تحقيق التفاهم والانسجام العام·
هذا الاوان تحولت البلاد الى "مكلمة"، او ورشة هرج وحكي هائلة·· فحيثما يممت وجهك او سمعك وجدت حلقة مساجلة، او جلسة مجادلة، او ندوة خطابة ساخنة، او بازاراً كلامياً غاضباً وصاخباً تتطاير من جوانبه اسراب الصراخ والانفعال والقصف المتبادل والتنابز بالاراء، لا لشيء الا لغرض تسجيل المواقف، واثبات الوجود، وافحام الخصوم، والرد على النار بالمثل، وذر الرماد في العيون·
الامر ذاته يمكن ان تعثر عليه بسهولة اذا يممت وجهك وبصرك نحو دنيا الصحافة وعالم الفضائيات والفيس بوك والمواقع الالكترونية·· فالكل يهرف بما يعرف ولا يعرف، والكل خبير محنك في سائر مناحي الحياة، والكل يريد ان يتكلم ولا يسمع وان يرسل ولا يستقبل، ربما لقناعته بانه وحده دون غيره صاحب المرجعية والمصدرية والكلمة العليا التي ليس بعدها من كلام·· "فقد قطعت جهيزة قول كل خطيب"·
المهم الاقوال وليس الافعال·· المؤثرات الصوتية وليس الاجراءات العملية·· البيانات النارية والمذكرات العصبية والعرائض الشللية، وليس القوى الشعبية والنخبوية القادرة على حملها الى الميدان، والنضال في سبيل تحقيقها وتطبيقها·· ذلك لان الهدف هو التماس الشهرة والنجومية وتلميع الذات، وليس العطاء الوطني والخدمة العامة والتضحية في سبيل الله والشعب والمبادئ العليا·
حتى الحراك الشعبي الذي تجلى في مستهل هذه السنة، وتماهى مع الحركات الاحتجاجية في باقي الاقطار العربية، سرعان ما ترنح وتشرذم وانتهى الى مهاوي الشلل والكساح، دون ان يحقق نتائج سياسية او اقتصادية تذكر، وبغير ان ينجح في اشاعة "ثقافة العمل الميداني" التي كان يفترض ان تحل محل حلقات اللغو والثرثرة والتنافخ الكلامي داخل الغرف والقاعات المغلقة·
على ان الاغرب والاعجب في هذه "المكلمة العامة" هو التخبيص في ترتيب الاولويات، وفهرسة الاهتمامات، حيث طغى الثانوي على الرئيسي، وبغى الخاص على العام او الفرع على الجذع، وتقدم الاقل اهمية على الجوهري والمهم، والى حد ان قضية الكازينو او اشكالية تهريب شاهين او استقالة بعض الوزراء، قد نالت من الاهتمام، واستغرقت من الوقت، واستهلكت من الجهد على مدى الشهور الاخيرة اضعاف اضعاف ما استأثرت به جملة قضايا مركزية واستراتيجية مهمة، مثل التغيير الديموقراطي، والملكية الدستورية، ولجم الفساد، والتطبيع مع العدو، والازمة الاقتصادية، والمديونية السرطانية، والالتحاق بمجلس التعاون الخليجي·· الخ·
لقد رأينا بام العين كيف انتهت قضية الكازينو بعد كل هذه الزوبعة العاتية من المشاغلات والمناقشات والمماحكات، وكيف خرج الرئيس البخيت من تحت قبة البرلمان متأبطاً شهادة براءة ناصعة البياض تعفيه من اية مسؤولية ادبية او سياسية او جزائية، وغداً سوف نرى كيف تصل قضية شاهين الى نهاية مماثلة، وكيف سيهال عليها تراب النسيان، بعد ان تؤدي كامل اغراضها في الهاء الناس واستنزاف طاقاتهم، وصرف انظارهم عن القضايا المهمة والمطالب الجوهرية·
لقد ابرق السادة النواب وارعدوا قبيل جلسة مناقشة قضية الكازينو، وقالوا في هذه القضية ما لم يقله الامام مالك في الخمر، ثم ما لبثوا ان رفعوا، خلال جلسة المناقشة المراثونية، عقيرتهم بالصراخ والتهديد والوعيد·· غير ان غيوم رعودهم سرعان ما امطرت شآبيب براءة لرئيس الوزراء، فيما جرت رياح وعيدهم بما تشتهي سفن الحكومة ودوائرها المعنية !!
كيف تحول نضالنا الى ظاهرة صوتية وبيانات ورقية؟؟ لماذا تحول اهتمامنا عن القضايا الاساسية الى المسائل الفرعية والهامشية ؟؟ لماذا تلاشى حراكنا الشعبي مبكراً وبغير نتائج، فيما واصلت الشعوب العربية الاخرى مشوارها الطويل ؟؟ من المسؤول عن هذا النكوص المعيب، واين يكمن الخلل في مسيرتنا النضالية، وهل هو مقصود ومتعمد بفعل فاعل، ام عائد الى طبيعتنا الشعبية المسالمة والوسطية، ام ناجم عن غياب القيادة الشعبية الحازمة والحكيمة والكاريزمية ؟؟
منذ ستة اشهر ونحن نمارس الجعجعة بغير طحن، ونزاول الحركة بلا بركة، ونطلق التصريحات وندبج المقالات ونشكل اللجان ونكرر الوعود والتعهدات بدون ترجمة حقيقية على ارض الواقع، بينما استطاعت دولة المغرب الشقيقة ان تجري خلال شهرين فقط اكبر حزمة من التعديلات الدستورية الجذرية، وان تقلص صلاحيات الملك التي كانت شبه اسطورية، وان تقترب كثيراً من رحاب الملكيات الدستورية، على الرغم من ان هناك العديد من القوى الحزبية والجماهيرية الشعبية المغربية التي مازالت تطالب بالمزيد·
منذ ستة اشهر ونحن نتلهى بالكلام، وننشغل بتعديلات قانوني الاحزاب والانتخابات، ونعلن الدعم الحازم - نكرر الحازم - لكل الشعوب العربية الثائرة ما بين صنعاء والدار البيضاء، ولعلنا قد نسينا في غمرة انشغالنا، او تشاغلنا، دعم الشعب الاردني الذي لا ظهراً ابقى ولا ارضاً قطع·· لا نال عنب الشام ولا طال بلح اليمن·· لا فاز بالتحولات الديموقراطية ولا ظفر بالتنمية الاقتصادية والكفاية المعاشية·· لا حظي برعاية الدوائر الحاكمة ولا استفاد من تنافخ قوى المعارضة وهمبكاتها·
كأننا غرباء عن هذا الوطن، ودخلاء على صناعة السياسة، وبخلاء في مجال التضحية الوطنية، وفاقدون لروح العطاء وحس المسؤولية، وزاهدون في نعمة الحرية وجنة الديموقراطية، وخائفون من مواجهة الحقيقة ووضع النقاط على الحروف، ومتفرغون فقط للسفسطة والكولسة والمزايدة والمناكفة وافساد ذات البين، بدل اصلاحها وتوطيدها وتأكيدها·
وعليه·· فليس امامنا جميعاً سوى الاقرار بالفشل في تحقيق الاصلاح المطلوب او التغيير المنشود، والاعتراف بالوصول الى مرحلة انعدام الفعل، وبالمراوحة امام الجدار المسدود، لعلنا نتطهر بهذا الاعتراف من لعنة العجز والتقصير والتفريغ الكلامي بادئ الامر، ثم نتواصى بالحق وبالبحث عن مخارج محتملة لهذا المأزق الحرج الذي تغوص فيه البلاد والعباد في الوقت الحاضر·
ليس بالوعظ والتمني والدعاء تتحقق الانجازات وتتغير المعادلات، والا لكنا تمنينا على القمة والقاعدة، او الحكومة والمعارضة عقد جلسات مكاشفة ومصارحة، للوقوف على حقيقة مواقف كل طرف، وللتعبير عن مطالب كل طرف من الآخر، وللتشارك في الجهود اللازمة لازالة العقبات الداخلية والضغوط الخارجية التي تحول دون تحقيق التوافق الوطني العام حول اردن المستقبل القوي والسيد والراسخ والحافل بارقى مستويات الحرية والعدل والديموقراطية·· والله من وراء القصد·