صورة الدولة لدى مواطنيها



هناك شبه قناعة أن السنوات الثلاث الاخيرة شهدت اصلاحات مهمة على طريق ترميم الثقة العامة بمؤسسات الدولة بعد التراجع الكبير لدور القانون في الحياة العامة خلال سنوات "الربيع العربي" وفق المقاربة الأردنية المعروفة، هذه القناعة ليست دقيقة وتحتاج الى مراجعة واعية، صحيح أنجزت مهام أمنية على درجة كبيرة من الاهمية منها على سبيل المثال وقف ظاهرة سرقة السيارات التي كانت تضرب بالطول والعرض، تم محاصرة مئات المطلوبين أمينا وتم الحد من ظاهرة الإفلات من العقاب، وكما هو الحال فقد شهدنا تراجع المناطق الاكثر خطورة واستعصاء، في حين بقيت هذه الإجراءات من منظور استعادة بناء الثقة انتقائية ولم تدخل في عمق نظرة الناس الى الدولة ونخبها ومؤسساتها.
الحادثان اللذان شغلا الرأي العام الأردني الاسبوع الماضي وهما الاعتداء الوحشي على استاذ جامعي والموثق بشريط فيديو شاهده مئات الآلاف من الأردنيين، وحادثة الاعتداء المزمن على كهرباء الحلابات، حفرا عميقا فيما تبقى من رصيد الثقة العامة المتمثل في قيمة الانسان الأردني وكرامته وفي انتهاك مقدراته واستباحة الاملاك العامة؛ فالهدر في خطوط الكهرباء يدفعه المواطن سواء بشكل مباشر او من خلال المالية العامة للدولة. وهذه الحوادث تتكرر باستمرار، لكن السؤال دوما حول حجم ما يصل الى الرأي العام، وحجم ما يتم التستر عليه، فقبل أقل من عامين كان لدينا كشف آخر مهم عن أطول وأضخم أنبوب لجرّ المياه وسرقتها. في هذا الوقت يتردد وجود نحو 1000 قضية سرقة مياه منظورة أمام المحاكم منها قضايا بالملايين ولم يصدر بها أي حكم، ويتردد أيضا أن الاعتداءات على المياه كلفت الخزينة خسائر نحو 120 مليون دينار لم نسمع أنه صدرت عقوبات رادعة بأي منها.
المسألة تعود دوما الى المربع الأول، الى دور القانون ومكانته وهل يعمل من اجل الجميع، وهل يطبق على الجميع. هناك فكرة مهمة يجب الانتباه اليها ومفادها أنه في بداية نشأة الكيانات السياسية، وفي مراحل الانتقال التي تعقب حالات الفوضى والفلتان وفي حالات الاسترخاء التي تضرب مفاصل حساسة في الدول، تحتاج السلطات الثلاث الى التكاتف خلف فكرة الجبر القانوني؛ أي ما قد يصل الى حد التطرف في الالتزام بتطبيق القانون بدون هوادة. لماذا؟ ليس كي يستعيد القانون مكانته وحضوره وحسب، بل لفرض ثقافة الحق والشرعية والعدل وتكافؤ الفرص في سلوك الافراد والجماعات وفي حياتهم اليومية حتى تتحول القواعد القانونية الى جزء من السلوك اليومي للناس، أي الى تقاليد لها قوة معنوية كبيرة قادرة على الاستمرار حتى لو نسي الناس القانون، أي فكرة الردع العام بجانبيها المعنوي والمادي. هناك العديد من الامثلة على أهمية فكرة الجبر القانوي في مسار بناء الدولة وكيف تحولت القواعد القانونية الى تراث بعدما اصبحت جزءا من الثقافة اليومية التي يتنفسها الناس.
صورة القانون في وعي المواطن والمسؤول ما تزال مشوشة، ودائما هناك مهرب آمن يبحث عنه الجميع، وفيما تتكرر أمثال هذه الاحداث تزداد الصورة تشويشا حينما لا تجد معالجة فورية وحاسمة، فالأحداث لدينا كالمصائب تبدأ فاجعة ويعلم بها الجميع ثم تصغر حتى لا يسمع ولا يسأل أحد كيف عولجت في اليوم التالي وربما تذهب نسيا منسيا.
حينما يفهم الموظف العام سواء في أعلى السلطة او في أدناها أن القانون أكبر منه، وحينما يشعر المواطن بقوة الردع العام تستقيم العلاقة ويتم تعديل الصورة المشوشة، فلا طريق للحل إلا بالقانون.