عبء «البراءة» وكلفتها
هل يمكن للبراءة أن تكون عبئا على صاحبها؟...هل يمكن لها أن تصبح صنوا للإدانة من حيث تبعاتها وأوزارها؟...ما قيمة أن يحظى المرء بـ»صك غفران» غير قابل للصرف في أي من «المصارف الشعبية» في طول البلاد وعرضها؟...وهل يعقل أن يفضي سوء إدارة «المحاكمة» إلى إدانة «القاضي» أو «الحكم» بما هو أصعب وأقسى من الأحكام التي كان ستوجه للمتهم أو المتهمين؟
أسئلة وتساؤلات، وكثير غيرها ازدحمت في مخيلتي وأنا أتابع وقائع جلسة «تاريخية» لمجلس النواب، أو هكذا كان يفترض بها أن تكون...وازدادت هذه الأسئلة وتساؤلات تزاحما وأنا أتابع ردود أفعال الأردنيين حيال ما يشهدون من فصول محاكمة تاريخية، كان من المفترض أن تسجل في تاريخ العمل السياسي والبرلماني في بلادنا في واحدة من أنصع صفحاته، بدل أن تدخل التاريخ كشاهد على الخواء الذي لحق بحياتنا السياسية.
لست في موقع الحكم أو القاضي، ولا أسمح لنفسي بأن أصدر صكوكا من أي نوع... على أنني أدرك تمام الإدراك، أن الرأي العام الأردني لم يشتر «حكاية» البراءة هذه...وبدل أن يربح الشعب الأردني «رئيسا للوزراء»، متحررا من تهم التورط والتقصير، ومجلسا نيابيا مستقلا ونزيها في إحقاقه للحق، خسر هذا وذاك، بلحظة واحة وجلسة واحدة؟!
من ذا الذي سيصفق بعد الآن لبيانات الحكومة عن محاربة الفساد وتعهداتها بالإنطلاق إلى أوسع عملية إصلاح سياسي في البلاد؟... من سيأخذ على محمل الجد، كل شعاراتنا وخطاباتنا...لقد خسرنا يوم الإثنين الفائت ما هو أهم من المال والسياسة، لقد خسرنا، أو بالأحرى خسروا، معركة «كسب الثقة» والحفاظ عليها وتطويرها.
ومما زاد الطين بلة، أن المصائر المؤسفة التي انتهى إليها التحقيق في قضية «الكازينو»، قد تفاقمت وتعممت ولما تهدأ بعد، رمال زوبعة قضيتي خالد شاهين والإستقالة الأقرب للانتكاسة التي تقدم بها الزميل طاهر العدوان، وزير الإعلام والإتصال.
لن يذكر الأردنيون وقائع جلسة الإثنين الفائت إلا كشاهد حي على نجاح السلطة التنفيذية في استتباع السلطة التشريعية واستلحاقها...سيستذكرون الكيفية التي نجحت فيها حكومة في انتزاع براءتها من «براثن» التحقيق النيابي، وسينسجون العشرات من القصص عن أدوات «الإحتواء الناعم» وأثمانه.
وستستقر هذه الجلسة في الذاكرة الشعبية الأردنية لا بوصفها جلسة البراءة لرئيس الوزراء...أو جلسة «تدبيس» قضية «الكازينو» للدباس، بل بوصفها الجلسة التي انتهكت فيها «حرمة» مجلسين نيابيين متعاقبين: المجلس الخامس عشر المنبثق عن أسوأ عملية تزوير لإرادة الأردنيين منذ استئناف الحياة النيابية قبل أزيد من عقدين من الزمان...والمجلس السادس عشر، حيث جرت أوسع عملية مصادرة لإرادة نواب الأمة...
في ظني، وليس كل الظن إثم، أن وقائع الإثنين الفائت قد أوصلت الحكومة والبرلمان على حد سواء، إلى نهاية الطريق ... وأحسب أن «صك البراءة» يشبه إلى حد بعيد، ترفيع المسؤولين قبل إحالتهم على التقاعد...أحسب أن «نواب الأمة» أطلقوا النار على أقدامهم....ولست في هذا المقام أضرب في الرمل، ولا أنقل عن «مصادر مطلعة» أسرت لي بما ذهبت إليه.... إنه «التحليل الملموس للواقع الملموس»...انها مقتضيات المصلحة الوطنية العليا ومندرجاتها، لا أكثر ولا أقل.