التوقيع عن غيب!

كل من يطلع على ملف الكازينو وتفاصيله، يجد أن هناك بعدين مهمين كانا وراء تورط البعض؛ الأول سياسي، والثاني مسار إداري غير سليم. وربما تكون هناك أبعاد أخرى يكشفها التحقيق.
لكن كلا الأمرين يشكلان في النهاية نتيجة واحدة، وهي الموافقة على أمور وقرارات ربما لا يقتنع بها الشخص رغم أهميتها ودلالاتها، وأيضا التعامل من دون تدقيق أو دراسة مع ملفات تحتاج إلى أسابيع لدراستها. وأحيانا، وجدنا لجانا شكلية، مثل التي ذكرها التقرير والتي شكلها وزير السياحة الأسبق لدراسة عروض باللغة الانجليزية وقيمتها مئات الملايين، من مدير مكتبه وموظف آخر، وطلب منهما الانتهاء من دراسة الملف خلال ساعة وإصدار القرارات.
وحتى ما جرى لمعظم أعضاء المجلس الوطني للسياحة الذين وقعوا على قرار اعتبر القمار مهنة سياحية أو نشاطا سياحيا، فإنه أمر يستحق التوقف من حيث آلية التوقيع تحت ضغط الإلحاح والتخجيل، وربما الضغط. وأيضا أن هذا المجلس لا يجتمع، وأن وجوده لا قيمة له عمليا ولا ضرورة له إلا التوقيع بالتمرير.
وحتى مجلس الوزراء، فإنه لا يجوز أن يوقع وزير على أي محضر من دون قراءة متأنية. فالبعض لا يدفع فاتورة المطعم قبل قراءتها بالتفصيل، ويدقق في كل صنف وسعره، ثم يجمع أثمان كل صنف، ويحسب الضريبة قبل أن يدفع، وأحيانا يقوم بالسؤال والاستفسار من الجرسون، فكيف يكون الحال في التوقيع على محاضر جلسات لأي جهة، أو تمرير قرارات من دون قراءة؟!
ويستوقفنا جميعا كيف أن وزيرا يستدرج عروضا ويوقع قبل أن يتم استكمال الشروط القانونية للترخيص، بل ويتجاهل توصية من وزير العدل وغيره بأن فتح كازينو مخالف للدستور. وربما هذا يدخلنا إلى موضوع أكبر، وهو أسس اختيار الوزراء في حكومات عديدة، وهي أسس تحتاج إلى مراجعة جذرية لأنها جزء من الإصلاح السياسي، لأن الوزير ليس موظفا وليس فنيا فقط، بل صاحب ولاية بإدارة شؤون البلاد. فإذا كان مسكونا بعقلية الجهة التي جاء منها ويتعامل بعيدا عن حقيقة الموقع الوزاري، أو حملته الصدفة أو الأنساب والعلاقات، فإن هذا كفيل بإضعاف مؤسسات الدولة.
ولعل من الأبعاد السياسية في ملف الكازينو وغيره، الاستخدام الظالم لإيحاءات غير سليمة وظالمة، بأن هذا الملف أو ذاك مطلوب من جهات عليا. وتصبح هذه الجملة جواز سفر لأشياء غير مقبولة وغير مستوفية للشروط القانونية والدستورية، وكل من يقف في طريق أي ملف ترافقه الإشارات إلى الأعلى، أو إلى الصور المعلقة في المكاتب، يتم إقناعه بأنه يجب أن يوافق لأن الموافقة استجابة لرغبة عليا. وهذا الأمر يدفع البعض للموافقة عن غيب، حتى وهو يتمتم بالرفض. لكن تقرير النواب سجل رفض وتحفظ عدد من المسؤولين والوزراء، وهذا يعني أن الأمر ليس قدرا من السماء، ويؤكد أن الإيحاءات تكون نوعا من التضليل، وهو ما أشار إليه الملك قبل فترة بأنه لا توجد تعليمات من فوق.
ملف الكازينو درس لكل مسؤول بأن لا يمارس أي توقيع على أي قضية أو محضر اجتماعات إلا بعد قراءته، والتأكد مما هو مكتوب، لأنه لا يدري متى يتحول أي ملف إلى قضية فساد. فلا توقع أخي المسؤول إلا على ما تقتنع به، ولا تصدق من يشير إلى الصورة وهو يضع الأوراق لك لتوقعها.