في سؤال الزرقاء وعمان!

لا أعتقد أن من الغرابة طرح سؤال انخفاض نسب المشاركة بالمدن الكبرى، وعلى رأسها عمان والزرقاء وإربد، في كل انتخابات، نيابية أو بلدية. السؤال طرح مرارا لكن نقاشه والعصف الذهني الوطني حوله بقي ملتبسا ومثيرا للجدل، إن لم نقل مثيرا لأكثر من ذلك، خصوصا مع ارتباطه، أو ربما ربطه بسؤال الهويات الفرعية والتنوع المجتمعي من ناحية الأصول والمنابت.
في موضوعة انخفاض نسبة المشاركة بهذه المدن، قد يكون الأكثر دقة وموضوعية بالنقاش العام هو فصل سؤال المشاركة عن سؤال إشكاليات الوحدة الوطنية وقضايا المساواة والحقوق والدولة الجامعة التي نريد، وهو فصل منطقي رغم وجود تداخل بين القضيتين في جانب ما، لكنه –برأيي- ليس الأساس وراء الإجابة عن سؤال المشاركة.
ترتبط نسبة المشاركة والإقبال على صناديق الاقتراع بالانتخابات بعدد من الدوافع والحوافز، وعادة فإن المدن الكبرى، كظاهرة عالمية، تنخفض بها نسب المشاركة مقارنة بمناطق الريف والأطراف لأسباب ليس هنا مكان نقاشها.
وفي الحالة الأردنية فإن تفسير انخفاض نسبة المشاركة بهذه المدن يرتبط بتراجع البعد العشائري والمناطقي كمحرك اجتماعي قوي لانتخاب القريب أو ابن العشيرة، فيما يظهر هذا العامل بقوة في الأطراف والمحافظات والأرياف. فيما كان يمكن لعامل الشعور بجدوى المشاركة والإيمان بالقدرة على التغيير بالسياسات والخدمات عبر صناديق الاقتراع، النيابية أو البلدية، أن يحرك الناس للمشاركة ورفع نسبتها بغض النظر عن الأصول والمنابت.
تجارب مجالس النواب والبلديات المنتخبة، تحديدا بالدورات القليلة الماضية، لم تقدم تجربة ترتقي لطموح المواطنين، لا من ناحية الرقابة والتشريع نيابيا، ولا من ناحية الخدمات والشفافية بالأداء بلديا. وهنا يمكن التفصيل طويلا في ذلك، ما يفسر –برأيي- البعد الرئيسي للعزوف وقلة الإقبال على الانتخابات، وأيضا يفسر بجانب ما استشراء المال السياسي ومشكلة شراء الأصوات، تحديدا في المدن الكبرى.
في الأرياف والقرى والمحافظات، لا أعتقد أن ارتفاع نسب المشاركة بالانتخابات يعني انتفاء مشكلة غياب الثقة وعدم الشعور بالجدوى بالمجالس البلدية والنيابية، فمثل هذا الشعور بهذه المناطق موجود كما في المدن، لكنه يتجلى في مظاهر سياسية واجتماعية مختلفة بطبيعتها، ليس مكانها صندوق الاقتراع الذي تحكمه هنا الأبعاد العشائرية والقرابية إلى حد كبير، لاعتبارات لها علاقة بتطور البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية والتنموية. وكما في المدن الكبرى، باتت ظاهرة استشراء المال السياسي أو النفوذ الاقتصادي والمالي أو كليهما، عاملا رئيسيا يعزز البعد العشائري كورقة قوة للمرشحين وتحريك الانتخابات.
من الأبعاد الاخرى التي أعتقد أنها تفسر انخفاض نسب المشاركة بالمدن هي الأوضاع المعيشية والاقتصادية المتردية، والتي تزداد تردّيا سنة عن أخرى، ما يشيع حالة من الإحباط والسلبية تتجلّى بجانب ما بالعزوف عن الشأن العام والمشاركة. ناهيك عن بعد التجربة التاريخية بهذه المدن لناحية الصراع والاستقطاب المتبادلين بين الحكومة والمعارضة الإسلامية في الانتخابات كعامل منفّر ومحبط بالقدرة على التغيير الحر!
هذا لناحية سؤال انخفاض نسبة المشاركة بالانتخابات بعمان والزرقاء، أما فيما يتعلق بسؤال الهوية والتنوع المجتمعي وإشكالاته، التي تربط بقضية المشاركة، فأعتقد أنه سؤال أعمق وأوسع بكثير من قضية المشاركة من عدمها، وهو جانب وقضية ترتبط أساسا بسؤال ومفهوم المواطنة، وهو هنا لا يمكن قصره أو حشره بأي صورة ضمن شعار المحاصصات والتقسيمات والتفتيت بين مكونات وهويات وفرعيات، لأن في ذلك وصفة خراب محققة من جهة، ومن جهة أخرى لأنه شعار لا يمكن أن يقدم حلا وإصلاحا حقيقيا ولا حتى شكليا.
الأرضية التي يجب أن تؤسس لأي حوار وطني مسؤول حول هذه الأسئلة هي شعارات الإصلاح الحقيقي؛ دولة مدنية يسودها القانون والدستور أساسا لعقدها الاجتماعي، وتقوم على مبدأ ومفهوم المواطنة وميزان الواجبات والحقوق، دولة المساواة والعدالة والكفاية والقانون.. بذلك فقط تستقيم الأمور للكل الوطني وتتعزّز مناعته وانتماءه وقدرته على العطاء والتقدم.