ولم ار في عيوب الناس شيئاً

قليل من الناس من لم يسمعوا ما قاله عالم الفيزياء ألبرت اينشتاين عن النحل. وللتذكير، فقد قال إنه إذا مات النحل، فليس امام العالم سوى اربعة اعوام قبل أن يفنى،» وبحسب ما قاله أحد خبراء ميكانيكا الطيران، فإن تركيبة النحل لا تؤهله للطيران من الناحية النظرية، ولكن النحل لا يعلم ذلك، ويستمر في الطيران».

وتحضرني ايضاً في هذا المجال قصيدة الشاعر الإنجليزي الكلاسيكي «توماس جري» بعنوان «قصيدة رثاء كتبت في مقبرة كنيسة بالأرياف»، ويقول فيها «جري» أن أصحاب الجاه في التهائهم بعزوتهم ومكانتهم لا يتذكرون من ظلموا من النائمين تحت التراب في مقبرة تلك الكنيسة في ريف إنجلترا، ولعل بعض هؤلاء المساكين الذين وصفوا تارة بالفلاحين وأخرى بالحراثين من كانت في قلبه نيران مقدسة تفيض بالذكاء وفي يديه مهارة تجعله أحسن عازف ناي في العالم.»

هذه الترجمة بتصرف لما قاله «جري» حزناً وتعاطفاً مع هؤلاء الأموات، لا تقلل من قيمة ما قاله الشاعر، ولكن الموسيقى والبلاغة تضيعان في الترجمة.

هذه الاقتباسات الثلاث يمكن جمعها لتشكل بداية للإجابة على تساؤلات كثيرة تخطر في بالي، وبال الكثيرين من الذين يتساءلون عما يفعله الوطن العربي بأبنائه وبناته من أهل الكفاءة والابداع والابتكار.

فتثور في ذهني حالياً أسئلة عديدة تدور كلها في نفس المحور، أولها لماذا يكون لدينا فريق كرة قدم من الشباب في بواكير المراهقة يلعب بكفاءة عالية تناظر فرقاً في دول متقدمة، ولكن عندما يصل هذا الفريق سن العشرينات، يتراجع مستواه، ويفقد قدراته؟

والسؤال الثاني لماذا يتألق طالب متفوق إن هاجر إلى أمريكا أو أوروبا، ويبدع، بينما زميله الذي آثر العودة للوطن العربي يتحول تدريجياً إلى بيروقراطي راغب في الرتب وليس في الابداع والتفوق؟

وسؤال ثالث يتحدث عن مبتكر لم يجد من يصدقه أو يأخذ بيده، فيضيع جهده، بينما يقوم شاب نظير له في دولة ترعى المبتكرين بتقديم نفس الفكرة، ويبيعها بمبالغ تجعل منه ضامناً لعيش مريح بقية عمره؟

إذا لم تتوفر لدينا الإجابات على هذه الأسئلة وامثالها فهذا يتطلب منا فوراً إجراء تحقيق شامل موضوعي يضم خبراء في التربية، وعلماء الاجتماع، وعلماء النفس، وعلماء الإدارة، لكي يطلعونا في نهاية الأمر على الاسباب الكامنة وراء ذلك.

هل نفعل نحن فيهم ما قد يفعله جاهل اذا ذكر النحل بأنه ليس مؤهلاً للطيران، فيقعد النحل عن ذلك؟ هل نذكّر الناس بنقاط ضعفهم وننسيهم نقاط قوتهم وإرادتهم، ليس عندي الجواب، ولكن البحث عنه يستحق تلك الجدوى. 

لقد عمل المرحوم الملك الحسين والأمير الحسن بن طلال سنوات طويلة على رعاية المؤهلين والباحثين في مختلف المجالات العسكرية والأمنية والعلمية والأكاديمية والرياضية والثقافية والطبية ونجحوا في تقديم نماذج متميزة في الاردن.

ولما تسلم الملك عبدالله الثاني مقاليد الحكم، فتح وأسرته المكونة من الملكة رانيا، وولي عهده الأمير الحسين الأبواب على التواصل مع الشباب والمبدعين، ومنحوا الجوائز والكؤوس والأوسمة للمؤسسات، والأفراد المبدعين في مجالات متعددة كالإدارة، والكفاءة الوظيفية، والتعليم، وخدمة المجتمع والابتكار في تخصصات متعددة.

وقد رأينا شباباً أردنيين يحققون إنجازات رياضية عالمية في مجال التايكواندو، والركض لمسافات طويلة، وحققت شركات اردنية يقودها شباب متحمسون مبدعون في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وكذلك في مجال الصناعة، وإعادة التدوير. ورأينا بعضاً من شبابنا النشامى في الجيش يحققون انجازات كبيرة في مجال التصنيع والابتكار الهندسي، وفي مجال الطب والجراحة، وفي مجال الأدوية، والصناعات ورأينا الأردن يحقق إنجازات كبرى في الزراعة، والتصنيع الزراعي، وحتى في مجال اللوجستيكيات وغيرها.

إن السؤال الكبير الذي يواجهنا في الأردن هو: لماذا لا تحقق هذه الإبداعات المتميزة نقلة نوعية في نوع النمو الاقتصادي الذي نسعى له، ونرجو أن يتحقق.

الأردن بدون كفاءاته الابداعية سيكون مثل العالم بدون نحل، ولكن الكفاءات موجودة، ومتعددة، وفي كل القطاعات فلماذا لا نوفر التنظيم الصحيح والترتيب المؤسسي والانتاجي اللازم لذلك؟

لربما نحن بحاجة إلى ما فعلته الصين، وهو العودة في الاردن إلى ما كانت عليه مؤسساتنا العامة والخاصة، لقد انتعشت تلك المؤسسات لأنها اعتمدت نظام الكفاءة مقاساً بالنتائج والمخرجات، لا بالمدخلات ومؤشراتها. 

التعليم في بلدنا من حيث المدارس واعداد المعلمين والفرق الصيفية وساحات المدارس وغيرها جيد جداً... ولكن نتائج هذه المدخلات لا تعطي النتائج المرجوة... لماذا؟.

هل هنالك مثبطات تحول بين استكمال دورة الابداع والانتاج والتسويق الصحيح؟ هل تقوم الكفاءات المتوسطة بطرد الكفاءات الابداعية من السوق؟ هل دمرت شبهات الفساد وممارساته الرغبة لدى الكثيرين بالتقدم والتميز؟.

هل ينطبق علينا قول الشاعر المتنبي 

ولم أر في عيوب الناس شيئاً كنقص القادرين على التمام