تركيا... من نموذج ملهم إلى دولة مأزومة

الأصل في العلاقة بين «العلمانية» و «الديموقراطية» هو التوافق لا التناقض، فكلتاهما مفهوم سياسي نبع من فضاء الحداثة، لصوغ دولة- أمة، تتجاوز التكوينات السياسية التي سادت العالم التقليدي من قبيل الإمبراطورية، الخلافة، الولاية، الإمارة... إلخ. غير أن العلمانية بدت مضادة للديموقراطية في الصياغة الأتاتوركية، إذ منحت للمحكمة الدستورية، مع الجيش، أدواراً استثنائية في الحياة السياسية، باعتبارهما حارسي النظام العلماني، ولو كان ذلك على حساب الإرادة الشعبية لجموع المواطنين في دولة مدنية، يفترض أن تكون تعددية لا تتحكم في مصائرها سوى صناديق الاقتراع.

 

 

هذه الهيكلة السياسية لا يمكن فهمها إلا في سياق الدور التاريخي الاستثنائي الذي لعبه الجيش بقيادة أتاتورك في تحرير تركيا من احتلال القوى الأوروبية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، على نحو جعله رقماً صعباً في تأسيس الجمهورية وعند وضع دستورها الجمهوري، خصوصاً أن الفاشية الإيطالية لم تكن قد تفجرت، والنازية الألمانية لم تكن عواصفها قد هبت، ما يعني أن الديموقراطية كصيغة سياسية تنهض على عقد اجتماعي يمنح الفرد ثقته الكاملة، وتمنح الإرادة العامة الاحترام الكامل، لم تكن قد استقرت بعد.

 

 

بانتصاف القرن العشرين، بدت تلك الهيكلة، في مأزق كبير، ما كان يدعوها إلى خفض جناحيها للإرادة الشعبية، كي تتخلص من حال «الاستثنائية»، وتلوذ بسياق «طبيعي» يضمن استمرارها، وهو التحول الذي استمرت النخبة الأتاتوركية تعانده لأكثر من خمسة عقود، وبالذات في العقدين التاليين على انقلاب الجيش بقيادة كنعان إيفرين عام 1980، حتى وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، ولذا اعتبره أحد العلمانيين القوميين نهاية طبقة سياسية كاملة. وعبر سنوات طوال صنعت حكومات الحزب ما يشبه معجزة تنموية، استقطبت جماهير أوسـع، فتمكنت من ترسيخ حكمه مرتين في 2007 و2011، وكذلك من تفكيك استثنائية الصيغة العلمانية بكسر سطوة الجيش، وتقليص سلطات المحكمة الدستورية لمصلحة البرلمان، الأمر الذي دفع النخبة الأتاتوركية إلى الانحناء أمام الجماهير، والتصالح مع متطلبات الديموقراطية. تلك هي الفترة التي قاربت خلالها تركيا مستوى النموذج.

 

 

اليوم يبدو النموذج هذا في طريقه إلى الأفول عبر مسار بدأ مع فترة الولاية الثالثة للعدالة والتنمية، وانعكس في تراجع التصويت له من نحو 50 في المئة إلى 40 في المئة في انتخابات 2015، واضطراره إلى إجراء انتخابات مبكرة ليتمكن من تشكيل حكومة، ولكنه بلغ ذروة جديدة في أعقاب فشل الانقلاب العسكري الذي دخلت تركيا بعده حالة انقسام أهلي عميقة لم تبرأ منها بعد. وحتى عندما تم الاستفتاء على تعديل الدستور، لمصلحة نظام رئاسي، يحوز فيه رئيس الدولة سلطات فعلية موسعة، تجعله حاكم البلاد الفعلي، فقد كانت نتيجة الاستفتاء (52 في المئة مقابل نحو 48) كاشفة عن هذا الانقسام بأكثر مما عبرت عن توافق حول حاضر البلاد أو مستقبلها. بل إن مثل هذا الاستفتاء لم يكن ليمر أصلاً لولا أجواء العنف والإرهاب التي سبقته، والتي استغلت لإثارة مخاوف الناخبين الخائفين على سلمهم الأهلي، كما استخدمت الملاسنة مع دول الاتحاد الأوروبي لإثارة النعرة الوطنية والدفع نحو تأييد الحكم القائم، كما يحدث عادة في أوقات الأزمات الكبرى حيث يربط عموم الناس بين الحكومة والدولة.

 

 

ومن ثم فإن ما يحدث في تركيا اليوم أبعد ما يكون عن معالم النموذج، أو حتى تجربة قادرة على عبور عتبات الديموقراطية، إلى تجربة دولة الحزب الواحد السلطوي، بصيغة تعددية شكلية ومسحة إسلاموية، وهذه تركيبة يزداد فشلها وضوحاً يوماً بعد يوم، سواء في ما يتعلق بالتصعيد ضد الأكراد، أو بحصار كافة قنوات الصحافة والإعلام ناهيك عن وسائط التواصل الاجتماعي، والصراع غير المبرر مع جماعة فتح الله غولن، الأمر الذي أفضى إلى تمزق في النسيج الاجتماعي، واضطهاد للعديد من الفئات المنتمية في عمومها إلى الطبقة الوسطى، والتي كانت شريكاً أساسياً ورافعة أولية لتجربة العدالة والتنمية.

 

 

يبدو أردوغان منتشياً بقدرته الكبيرة على السيطرة على مقاليد الحزب ثم نظام الحكم في تركيا بحكم الدستور الجديد، خصوصا بعد إقصائه كل الرموز الكبيرة للحزب كالسيد داود أوغلو، رفيق درب أردوغان لنحو العقد ونصف العقد، مستشارا له، ثم وزيرا لخارجيته، ثم رئيسا للوزراء وزعيما للحزب الذي ظل هو قائده التاريخي، أو السيد عبدالله غل، صديقه ورفيقه أيضا في الحزب والحكومة، ورئيس الجمهورية السابق. غير أن تلك السيطرة ليست دليل قوة بل هي عرَض لضعف مرضي يتمثل في الشمولية، فالتجارب القوية هي التي تعبر عن نفسها بسلاسة من خلال القدرة على الإقناع، وعبر ارتياد الآفاق الجديدة ومراكمة الإنجازات الواعدة، وليس عبر الممارسة الخشنة للسلطة. فلو كان الأمر هكذا لكانت صناعة النماذج سهلة، ولكان عالمنا العربي نموذجاً للنجاح.

 

 

تستغرق التجارب الناجحة زمناً للاختمار قبل أن تفصح عن نفسها، وقد احتاجت تركيا ما بعد الأتاتوركية إلى أربعة عقود من التطور التدريجي البطيء للصحوة الإسلامية المعتدلة من النظام العادل إلى حزب الرفاه إلى العدالة والتنمية. هذه الصيرورة التي كانت شارفت مستوى النموذج توقفت الآن بالفعل، ولعل ما نشهده على المسرح التركي ليس إلا دولة مأزومة تواجه أزمات مزمنة سوف تفضي حتماً إلى تراجع الحزب المسيطر على السلطة. وليست تلك هي المشكلة فقد كان ممكناً أن يتراجع الحزب في سياق طبيعي كحامل سياسي لصيغة ثقافية ثم يعود.

 

 

وليست المشكلة كذلك في تعديل نظام الحكم الى الصيغة الرئاسية، فأكثر نظم الحكم ديناميكية وديموقراطية في العالم رئاسية (الولايات المتحدة)، لكن المشكلة الكبرى تتمثل في تراجع الصيغة الثقافية نفسها، واستهلاك الإسلام المعتدل لكل ممكنات اعتداله، وانتفاخ الرئيس بالسلطة إلى حد الجنون، والتورط في ممارسات استبداد عارية، لا تسمح بتداول وتقاسم السلطة إلا عبر انقلاب على النظام القائم أو تآكله من داخله. وللأسف أصبح هذا الخياران مصير تركيا القادم، حيث أُعطبت آليات عمل النظام، وبدأ العد التنازلي لماكينته السياسية.

 

 

للكاتبTags not available