في وداع الطبقة الوسطى !




قبل عقدين صدر كتاب بعنوان وداعا للطبقة الوسطى، ولم تكن الاجراس التي تنذر بانقراض هذه الطبقة قد بدأت تقرع، والطبقة الوسطى تاريخيا واجتماعيا وثقافيا هي الحاضنة لكل الحركات المجتمعية، وبنك الاحلام، ومنها خرج قادة ومثقفون وعلماء لكن غروبها التدريجي ادى الى نتائج لم تكن محسوبة من قبل وعلى سبيل المثال لا تتجاوز الطبقة الوسطى في اكثر من بلد عربي الخمسة بالمئة من مجمل السكان، وقد بدأ الفقر والانهماك بالضروريات يقضم هذه الطبقة منذ عدة عقود، بحيث كان يليق بها عنوان دراماتيكي وهو الوداع، فما الذي حدث في عالمنا العربي وراء الكواليس والاكمات ولم يكن قابلا للرصد بالاساليب التقليدية ؟ هل هو السّعار الاستهلاكي الذي حوّل مجتمعات بكاملها الى اسفنج ليس لديه ما ينتجه، ويعيش على امتصاص ما يرد اليه ؟ ام هي الثقافة بعد ان جرى افراغها واعطاب بوصلتها والحقت بالاعلام ؟
الاسباب عديدة، وقد تكون مجتمعة قد ادت الى هذا الحال حيث يتفاقم الداء بتسارع ينذر بنهايات غير سعيدة على الاطلاق، ان تراجع الفن وهبوط المستوى العام للابداع كان حصيلة غير متوقعة لتلك الثقافة التي بشّرت بحداثة منزوعة الجذور ثم هبّت عواصف العولمة بأردأ نماذجها لتجهز على ما تبقى، لأنها بالفعل المرادف للقطعنة وتحويل البشر الى قطع غيار متماثلة اضافة الى التسطيح والتجريف بحيث ترجح كفّة الضرورة على كفة الحريات كلها .
والانسان الذي وصفه هربرت ماركوز في ستينيات القرن الماضي بأنه احادي البُعد لم يكن امريكيا او اوروبيا فقط، بل شمل هذا التوصيف قارات تحولت الى رهائن وهي لا تعلم، فهي تستورد ما يُعاد انتاجه من باطن ارضها ومناجمها بحيث تمددت ثقافة الاستهلاك من السلعة والسوق الى العقل والمعرفة، فالانتاج له مفاعيل وسياقات لا تتجزأ، ومن يستورد الرغيف يجد نفسه يستورد الفكرة ايضا، ان وداع الطبقة الوسطى وهو وشيك يعني وداع ثقافة كاملة وخسران حاضنة لا تُعوّض !!