قراءة سياسية لحدث فلسطيني لافت

قراءة سياسية لحدث فلسطيني لافت
هـل تتحـوّل غـزّة إلــى نمـوذج للـدولـة المنشـودة؟
حمادة فراعنة
بصرف النظر عن العوامل الضاغطة أو الظروف الطارئة، الإيجابية منها أو السلبية، التي فرضت نفسها على قيادة حركة حماس، ودفعتها نحو خيار التوصل إلى تفاهمات سياسية وإدارية مع « التيار الوطني الديمقراطي « النافذ في صفوف حركة فتح في قطاع غزة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه دون مواربة لها هل يمكن أن تشكل تلك التفاهمات أرضية ملائمة لخلاص أهل قطاع غزة من وحل الإنقلاب والتفرد والتسلط والهيمنة، منذ الانقلاب الدموي، الذي اسمته حركة حماس باسم» معركة الحسم العسكري « في حزيران 2007، الذي نفذته هذه الحركة بالحديد والنار، فاستولت خلاله على إدارة القطاع منفردة، ووقعت في المصيدة، مما أفقد أهل القطاع حرياتهم وتعدديتهم، وحرمهم التمتع بحصيلة تضحياتهم التي فرضت رحيل قواعد الإحتلال وجيشه وإزالة مستوطناته، وأن يديروا حياتهم بأنفسهم، فكانوا بذلك كمن وقع تحت المزراب المحلي بعد أن تخلصوا من الدلف الأجنبي، فعانوا تبعاً لذلك كله من ويلات مزدوجة :
1 - هجمات الإحتلال وإجتياحاته الثلاثة في اعوام 2008، 2012، و 2014، وما خلفه ذلك من دمار وخراب وافقار غير مسبوق.
2 - سوء إدارة وتدهور خدمات محلية متخلفة، وظهور أصولية بغيضة، وهيمنة سياسية إنفرداية متسلطة، وحياة عامة لا يتمناها الإنسان لخصومه من شدة القسوة والحصار والبؤس والمعاناة اليومية على كل صعيد، حيث باتت احوال القطاع المحاصر تتماثل مع مظاهر إدارتي داعش والقاعدة في أفغانستان وسوريا والعراق، وجيوبها في الصومال واليمن وليبيا، ولا تتناقض معها، فالأساس والمرجعية السياسية والفكرية واحدة، فالقاعدة وُلدت من رحم الإخوان المسلمين، وأسسها عبد الله عزام شيخ أسامة بن لادن، وداعش وُلدت من رحم القاعدة، بينما حافظت حركة حماس على ولائها ومرجعيتها، باعتبارها امتداداً لحركة الإخوان المسلمين، ولذلك جاءت النتائج والممارسات متشابهة، والفروق بينهم ضئيلة.

التحولات الذاتية
بعد عشر سنوات من الإنقلاب الدموي، او الحسم العسكري لا فرق، جرى التحول والتطور الذاتي لحركة حماس، فقدمت مؤخراً، بعد نقاش وحوارات داخلية عميقة وثيقتها « وثيقة المبادئ والسياسات العامة « المعلنة في قطر يوم الأول من أيار 2017، مترافقة مع نتائج إنتخابات داخلية أسفرت عن تولي يحيى السنوار إدارة ورئاسة الحركة في قطاع غزة، وإسماعيل هنية رئيساً للحركة بديلاً لخالد مشعل، فكانت حصيلة القرارات والإنتخابات تُمثل جيل المعاناة، ونتاج الواقع المعاش الملموس لأهل القطاع بشكل خاص، فهم الذين تحملوا تبعات الإحتلال وضرباته وإجتياحاته، ومثلما تمتع قادتهم بمزايا إدارة السلطة المنفردة، وهم الذين اخفقوا في تقديم نموذج يستحق الإحترام لشعبهم بعد عشر سنوات بائسة، وفي ذات الوقت مازالت متابعاتهم طرية وقراءاتهم حية، تماماً على نحو ما جاءت عليه تجارب أقرانهم من أحزاب التيار الإسلامي في كافة المواقع التي حكموا فيها، دون ان يدركوا معنى ديكتاتورية الجغرافيا، حيث الإحتلال مازالت مخالبه قوية نافذة، ونظام الرئيس السيسي يمارس معهم سياسة العصا والجزرة، حفاظاً على أمنه الوطني، ولذلك وقع ما كان من تطور، وحصيلته اللقاء المركزي بين حماس برئاسة يحيى السنوار وحركة فتح برئاسة النائب محمد دحلان، أي أنهم تفاهموا مع أشد خصومهم ضراوة، بعد أن عملوا على شيطنته طوال السنوات العشر الماضية !.
على خلاف المشككين حول لقاء السنوار والدحلان، فالمعلومات المؤكدة أن اللقاء حصل بترتيبات ومواعيد مصرية مسبقة، وهذا له دلالة كبيرة تعطيه المصداقية وقوة الدفع، كما أسفر عن تفاهمات، تم توصيفها على أنها تفاهمات أولية تمهيداً لسلسلة من خطوات التنفيذية المطلوب تحقيقها بما في ذلك عرضها على الرئيس محمود عباس، ولجنته المركزية، كي يتم تتويجها بإتفاق ثلاثي على أمل التحضير له حرصاً على نجاحه عبر خطوات تراكمية، تعمل لها القاهرة، مستفيدة من تجربتي الفشل اللتين سببهما الرئيس محمود عباس، الأول المبادرة مصرية، والثاني مبادرة الرباعية المصرية الأردنية السعودية الإمارتية.
تراكمات من الإخفاق والنجاح
فشلت المبادرة المصرية الأولى عام 2014 حينما دعت القاهرة الرئيس محمود عباس لزيارتها يوم 8/11/2014، وعرضت عليه سيناريو المصالحة التدريجية، تبدأ بالخطوة الأولى وعنوانها وحدة حركة فتح، وتتلوها الخطوة الثانية وهي المصالحة مع حماس، ومن ثم توحيد الأدوات والفصائل والشخصيات الفلسطينية عبر عقد مجلس وطني توحيدي يستجيب للمصلحة الوطنية العليا ولمواجهة التطورات السياسية، والتجاوب مع مبادرات فرنسية وروسية لمفاوضات فلسطينية إسرائيلية برعاية دولية، ولكن المبادرة المصرية كان مآلها الفشل بسبب عدم تجاوب الرئيس الفلسطيني معها.
كما فشلت مبادرة ثانية قامت بها الرباعية المصرية الأردنية السعودية الإمارتية التي عرضت وساطتها على خمسة أعضاء من اللجنة المركزية لحركة فتح، مفووضين من قبل رئيس الحركة، إجتمعوا بالقاهرة يوم 28/8/2015، مع ممثلي البلدان العربية الأربعة، على نفس مضمون المبادرة المصرية وخطواتها التدريجية، بدءاً من وحدة حركة فتح ومن ثم المصالحة مع حركة حماس، إلى توحيد المؤسسات الفلسطينية عبر منظمة التحرير وسلطتها الوطنية، ولم تُفلح وساطة الرباعية ايضاً، على نحو ما حصل مع المبادرة المصرية، وهكذا فشلت جهود الوساطة في لملمة الحالة الفلسطينية، وكان نجاح الرئيس الفلسطيني بعقد المؤتمر السابع يوم 29 / تشرين الثاني /2016، بمثابة صفعة لجهود الرباعية، بدون مشاركة 18 نائباً يمثلون أكثر من ثلث نواب حركة فتح ومن ضمنهم النائب محمد دحلان لدى المجلس التشريعي الفلسطيني، إضافة إلى ما يوازيهم من أعضاء المجلس الثوري لحركة فتح.
وجاء إنعقاد مؤتمر القمة العربية 29/3/2017، ليضيف نجاحاً لحضور الرئيس الفلسطيني بعد نجاح عقد مؤتمر فتح السابع، كما حصل إتصال الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع الرئيس الفلسطيني، ودعوته لزيارة واشنطن، وإستجابة ترامب لزيارة بيت لحم، بمثابة تعزيز لخيارات حركة فتح ورئيسها محمود عباس.
ولكن الأمواج والمياه لم تأت دائماً بما تشتهي الأنفس والسفن، وهكذا جاءت نتائج قمم الرياض الثلاثة يوم 20/5/2017 وما بعده، لتفجر أوضاعاً سياسية مستجدة، كانت بمثابة إنقلاب في المسار السياسي العربي وتطوراته الدراماتيكية، لمصلحة العدو الإسرائيلي وخياراته السياسية والإستيطانية والتوسعية، بعد نجاح ترامب الأكثر إقتراباً من سياسات نتنياهو من سلفه أوباما، مما عزز من تفوق المشروع الإستعماري التوسعي الإسرائيلي، وترك غصة وثقلاً وإحساساً بالمسؤولية على كل من القاهرة وعمان، نظراً لإرتباط مصالحهما الأمنية الداخلية بما يجري على أرض فلسطين، فالتوسع الإستيطاني وفشل جهود التسوية، والإمعان الإسرائيلي بتهويد القدس، وأسرلة الغور وتمزيق الضفة الفلسطينية بالمستوطنات برضى وقبول وصمت من قبل ترامب وفريقه الجمهوري الأكثر إنحيازاً وتفهماً لمشاريع تل أبيب التوسعية، في ظل إنعدام الوزن العربي، والحروب البينية، والإنقسام الفلسطيني، كل ذلك لم يترك مجالاً للقاهرة لمواجهة خيار الإنقسام دون حراك، ومتعة التفرد الفصائلي بالوضع الفلسطيني المأزوم أمام تفوق المشروع الإستعماري التوسعي وإستمرارية سياساته العدوانية.
بداية لملمة الوضع الفلسطيني
وعليه أقدمت القاهرة على مبادرتها الثالثة على طريق « لملمة الحالة الفلسطينية « مستفيدة من التطورات السياسية والتنظيمية التي ترى من خلالها أنها متغيرات إيجابية وعوامل مفيدة وأوراق ضاغطة على الأطراف الفلسطينية الثلاثة، الذين يشكلون عنوان الأزمة الداخلية الفلسطينية وهم : 1 - حركة فتح بقيادة الرئيس محمود عباس، 2- التيار الوطني الديمقراطي الذي يحرص محمد دحلان على تسميته «التيار الوحدوي الأصلاحي»، و 3- حركة حماس، حيث أن الأطراف الأخرى من الفصائل كالشعبية والديمقراطية والجهاد وغيرهم لا مشكلة لديهم للإنضمام إلى نتائج وخطوات المصالحة لإستكمال عملية الوحدة، والحفاظ عليها وتطويرها.
القاهرة أعادت صياغة مبادرتها عبر تغيير الخطوات المؤدية إلى الهدف الذي مازالت متمسكة به، فكان الجديد بخطواتها قد تحقق من خلال التفاهم تمهيداً لإتفاق ما بين فتح وحماس، فوقع اللقاء بين محمد دحلان وفريقه من طرف، وحركة حماس وقيادتها من طرف أخر، وبرعاية مصرية غير مباشرة يوم الأحد 11 / حزيران /2017، حيث لم يشارك أياً من القيادات المصرية ولم يحضر اللقاءات الأربعة التي تمت بين الطرفين ولكنه كان متابعاً لها وراضياً على نتائجها.
ونستيطع التأكيد من مصادر مطلعة وعليمة، أن اللقاء الثنائي الذي أثنى عليه الجانب المصري تضمن النقاط التالية وهي :
1 – الإتفاق على رفض مشروع إنفصال قطاع غزة عن المشروع الوطني الفلسطيني الذي يشمل الضفة الفلسطينية والقدس.
2- منظمة التحرير الفلسطينية هي عنوان الشعب الفلسطيني داخل وخارج فلسطين.
3- الإتفاق على حكومة وحدة وطنية برئيس وزراء جديد وتحت مظلة شرعية الرئيس محمود عباس، والمجلس التشريعي المنتخب.
4- إذا رفض الرئيس محمود عباس هذه المبادرة سيكون لدى الأطراف المشاركة خيارات وخطوات بديلة، على أن تتم بالتنسيق والتفاهم والشراكة مع الفصائل الفلسطينية وشخصيات مستقلة.
5- إنهاء سياسة التفرد والسيطرة الأحادية من قبل حماس على قطاع غزة، ومن قبل الرئيس وفريقه على مؤسسات رام الله ومنظمة التحرير.
ملاحظات نقدية
أولاً : هل يملك الرئيس الفلسطيني الأوراق الكافية، والفرص المتاحة لإحباط المسعى المصري الثالث كما فعل في سابقتين، خاصة وأن شرعيته مازالت مقبولة من قبل طرفي الإتفاق : 1- حركة حماس، 2- وتيار حركة فتح الديمقراطي، وكذلك من طرف القاهرة، ولكن الحوار والتفاهم أدى إلى صيغة اساسها أنهما لن يقبلا إستمرار تعطيل الرئيس عباس للمصالحة ومعاقبته لقطاع غزة، في ظل عجزه عن تقديم خطوات إيجابية لصالح الشعب الفلسطيني في مواجهة تطرف حكومة المشروع الإستعماري الإستيطاني التوسعي الإسرائيلية ؟؟
ثانياً : هل تقدم حماس حقاً على تنفيذ ما تم التفاهم بشأنه، لجعل الشراكة والتعددية هما عنوان الحالة السائدة في قطاع غزة، بديلاً للتفرد والسطوة، وبوابة لفك الحصارات عن أهالي القطاع ؟؟
فالحذر الحمساوي مازال قوياً على ما يبدو، بدلالة عدم صدور أي مواقف من قبل قيادات حماس تُشير إلى التوصل إلى مثل هذه التفاهمات، بإستثناء ما صرح به الدكتور أحمد يوسف عن قصد ومعرفة، ولكنه لا يملك الموقع القيادي الذي يؤهله للتعبير عن دقة مواقف أصحاب القرار الحمساوي، والتفسير المنطقي الذي يُقال أن هذا التفاهم يحتاج للإقرار من قبل مؤسسات حركة حماس القيادية حتى يُصار للإقرار به وإعلان الموافقة على مضامينه، خاصة وأن الإتفاق لا يقتصر على الشق السياسي بل سيشمل خطوات إجرائية تنفذها قيادة حماس، إضافة إلى إجراءات مماثلة من قبل حركة فتح، مترافقة مع إجراءات مصرية تضع قطاع غزة على بوابة التسهيلات الدائمة وفك الحصار التدريجي عنها، ولاحقاً صدر تصريح من صلاح البردويل يؤكد حصول هذه اللقاءات والتوصل إلى تفاهمات خلالها.
ثالثاً : هل تنجح الفصائل بمشاركة اللجنة المركزية لحركة فتح أو بدونها، لجعل قطاع غزة برمته نموذجاً للحياة الفلسطينية المنشودة، ومقدمة ضرورية لإقناع المجتمع الدولي بضرورة إستكمال خطوات التراجع الإسرائيلية عن سياسات الألحاق والضم والتوسع الإستيطاني وتدمير حل الدولتين، من خلال إنحياز المجتمع الدولي إلى تجربة غزة بإعتبارها نموذجاً للحرية والإستقلال والتعايش والديمقراطية والاحتكام إلى صناديق الإقتراع.
خطوة التفاهم الحمساوية الفتحاوية، إن نجحت في مسعاها، ستفتح على تغيير الأولويات الفلسطينية، لتكون بحق القفزة النوعية التدريجية نحو مكافأة أهل قطاع غزة على تضحياتهم وصبرهم، وتشكل حافزاً للنضال المماثل لأهالي القدس والضفة كي يواصلوا العمل والتضحيات وصولاً إلى ما تم تحقيقه في قطاع غزة.
قد تخسر حركة حماس مؤقتاً وترضخ لقيم الشراكة والتعددية مجبرة، ولكنها على المدى المنظور ستكسب سياسياً وتًعيد لنفسها حضوراً وإحتراماً حققته بنضالها وتضحيات قياداتها، وخسرته في إنقلابها العسكري وتفردها الأحادي على قطاع غزة، وفشلها في تقديم إدارة قادرة على تقديم الخدمات الضرورية، وفشلها في فك الحصار عن قطاع غزة، أما الرئيس الفلسطيني ولجنته المركزية إذا تجاوبوا مع هذا التفاهم، يكونوا بذلك قد جددوا لأنفسهم الكثير مما خسروه من فشل تراكمي :
فشلهم في المفاوضات طوال عشرين عاماً، فشلهم في ردع الإحتلال ومنع الإستيطان، فشلهم في الإنتخابات البلدية عام 2005، فشلهم في الإنتخابات التشريعية عام 2006، فشلهم أمام إنقلاب حماس عام 2007، فشلهم في إستعادة قطاع غزة إلى حضن الشرعية طوال عشر سنوات، فهل يتلقفون هذه التفاهمات ويتواضعوا أمام أهميتها، ويتحولوا إلى شركاء أساسيين في مضمونها ؟؟.

h.faraneh@yahoo.com

* كاتب سياسي مختص بالشؤون الفلسطينية والإسرائيلية