موريتانيا سباقة!!!


نواكشوط، موريتانيا – تواصل موريتانيا الاحتفاظ بصدارة سلّم حرية الإعلام على المنطقة العربية بأسرها. إذ تحتل هذه الدولة العربية الإفريقية المركز 55 ضمن تصنيف (منظمة مراسلون بلا حدود) للعام 2016، رغم تراجعها سبع درجات عن العام السابق.

وتؤشر المعطيات إلى أن هذه الدولة تتقدم بثبات صوب مزيد من الشفافية ومأسسة الاحتراف في صناعة الإعلام، بينما يتقهقر تصنيف غالبية الدول العربية على السلم ذاته، حتّى تلك التي كانت تتمتع بحرية نسبية.
في التسعينيات من القرن الماضي كان الصحفي الذي ينتقد سياسات رئيس الجمهورية يعرض نفسه لعقوبات صارمة. اما اليوم فلا خطوط حمراء أمام الصحفي إلا المساس بالثوابت الدينية ولا إعلامي متهم بخرق قانون المطبوعات والشر.
تجربة موريتانيا الفريدة تعمّقت بدءا من 2005، حين أطلق العنان للحريات الإعلامية في بلد "المليون شاعر"، القابع على هامش الجغرافيا العربية. بلد تنفرد نساؤه عن سائر إخوتهن العربيات بالتمتع بالحظوة والتقدير، ولعب دور قيادي في المجتمع والأسرة، بما في ذلك حقّهن في حضانة أولادهنّ بعد الطلاق، وإن ظل المجتمع تقليديا ومحافظا إلى درجة كبيرة.
قبل ذلك كان وضع الحريات الإعلامية في موريتانيا شبيها بالحال السائدة في غالبية الدول العربية، إذ كانت تحتل المركز 138 قبل أن تبدأ بتحطيم الرقم القياسي، قفزا باتجاه فضاء إعلامي أكثر حرّية وشفافية.
على أن حال الحريات الإعلامية المتقدم لم ينعكس كثيرا على جهود السلطة الرابعة في مقارعة الفساد ومساءلة رموزه من المتنفذين في بلاد "شنقيط"، وسط منطقة عرفت بعدائها لحرية الصحافة وحق الوصول إلى المعلومات؛ أساس حرية التعبير والرأي. إذ ما تزال موريتانيا تقبع في ذيل قائمة الدول الأكثر انتشارا للرشوة، وبخاصة في قطاعي التعدين والصيد، أهم ثروات البلاد، بحسب المؤشرات العالمية للعام ذاته.
يدل ذلك على ترسخ الرقابة الذاتية وخشية صحفيين من العقاب، في حال نبش أعشاش دبابير مقربة من القوى المتنفذة. وثمّة محاولات لتغيير أسس العمل المهني، وتنميط الصحفي على أنه "العدو رقم واحد" للمسؤولين. وهي تتطلب وقتا وجهودا تراكمية لكي تصبح ثقافة سائدة، ورافعة مجتمعية لاختراق الحواجز، التي تحول دون وصول الصحفيين إلى المعلومات.
لكن ذلك لا يعني أن قطاع الإعلام في موريتانيا لم يشهد تطورا كبيرا منذ مطلع القرن الحالي استجابة لمطلب تكريس حرية الإعلام وجهود التحول الديمقراطي. بلغة الأرقام، تنشط في موريتانيا منذ العام 2011 خمس محطات متلفزة، ست إذاعات، 123 موقعا الكترونيا و55 صحيفة. وينتظم قطاع الإعلام ضمن أطر 14 نقابة وروابط وتجمعات صحفية. وانتشرت كل هذه الهيئات الإعلامية بعد عام على تشكيل جهاز أعلى للصحافة والسمعيات البصرية العام 2010، للإشراف على مجمل القضايا المتعلقة بهذا القطاع المتداخل في عصر الثورة الرقمية.
هذا القانون حوّل الإعلام الحكومي إلى إعلام خدمة للعموم. وفكفكت علاقة القطاع بالمنظومة السياسية والسيادية لضمان استقلاليته، حريته وتعدديته بدلا من بقائه مطية بيد نظام حكم يروج لخطابه السياسي ومواقفه، وأداة لقولبة الوعي وتزييفه وتوجيه الرأي العام ضد مصالح المجتمع.
وبات هذا القانون ناظما للحريات الصحفية. واعتمد نظام التصريح بإصدار وسيلة الإعلام بدل نظام الترخيص، الذي كان سائدا حين كان بالإمكان مصادرة الصحف التي تكشف بعض الممارسات المضرة. القانون السابق قيّد عمل الصحف الملتزمة رويدا رويدا وقلّص هامش الحرية، حتى لم يتبق سوى الصحف الموالية للنظام، المدّاحة لحكومته والممجدة لحزبه، بحسب الكاتب الصحفي الولي سيدي هيبة.
في المقابل، ألغى القانون الجديد عقوبة المصادرة القبلية، التي كانت تعاني منها الصحف وساهمت في سجن صحفيين أحيانا كثيرة. فك القانون الجديد تبعية الصحافة لوزارة الداخلية وربطها بوزارة العدل. كما عدّ حق الإعلام وحرية الصحافة في مقدمة روافد حرية التعبير باعتبارها حقوقا ثابتة للمواطن. وأكد أيضا على أن من واجب الصحفي "حماية مصادره في جميع الأحوال، إلا في حالات الضرورة التي ينص عليها القانون لضرورات مكافحة الجرائم والجنح وبخاصة المساس بأمن الدولة".
العديد من الشابات والشباب خاضوا مهنة الصحافة من غير سابق تأهيل أو إعداد بسبب غياب برامج جامعية منفصلة، تعنى بدراسات الإعلام قبل أن تستحدث الدولة قسم الصحافة في المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء.
وبرز جيل جديد من الصحفيين والمحللين وكتاب الزوايا والاستقصائيين، كما انتشرت صحف نوعية ومحطات تلفزة فرضت مكانتها، وفق مشاهدات كاتبة المقال خلال زيارتها إلى موريتانيا على هامش ورشة تدريب على أسس صحافة الاستقصاء. لا خطوط حمراء أمام الصحفي إلا المساس بالثوابت الدينية.
ورغم هذه الإيجابيات يشكو العديد من الصحافيات والصحفيين من ضعف المهنية والمخرجات الإعلامية. وينتقدون بالتحديد تناسل ممارسات التشهير واغتيال الشخصية، وبخاصة على صفحات المواقع الالكترونية، ما يشجّع المسؤولين على حجب المعلومات عنهم بدعوى غياب أخلاقيات المهنة، رغم صدور قانون النفاذ للمعلومات. ويشكو إعلاميون من أن حرية الإعلام تحولت – في بعض المنصّات غير المهنية- إلى مجال لنشر الفوضى والكذب والتجني وثقافة الكراهية ويؤكدون أن لا رقيب على الصحفي غير مهنيته.
هذه المعادلة تتشابه مع غالبية الدول العربية، حيث تستغل السلطة ضعف احتراف بعض وسائط الإعلام وغياب الأخلاقيات لتبرير تكميم الأفواه وضبط إيقاع الصحفيين وفق لوائح من الممنوعات والمحرمات.
على أن الصحفيين هناك لم يستسلموا، حال معظم زملائهم في العديد من الأقطار العربية، وبخاصة خلال الأعوام الثلاث الماضية مع بدء الردّة على ما سمّي بالربيع العربي.
ويحاول المبدعون منهم توسيع هوامش الحريات الإعلامية يوما بعد يوم منذ تحرير قطاع الإعلام المرئي والمسموع. ويدفعون بمهنتهم الى الأمام رغم ضعف المهنية لدى عديد صحفيين، في غياب التكوين (التدريب) والتأهيل المستدام، الحوافز المادية والمعنوية. في ذلك يتقاطعون إلى درجة كبيرة مع حال زملائهم في غالبية البلاد العربية.
حجم التحديات المهنية والقانونية والسياسية والمجتمعية المتداخلة لم تمنع معظم الصحفيين الموريتانيين من محاولة خوض غمار صحافة الاستقصاء، القائمة على نبش قضايا مهمة تهم الرأي العام، توثيق الحقائق ومواجهة المتسبب عن قصد أو دون قصد، بهدف إصلاح الوضع السائد وتحقيق مزيد من العدالة والشفافية.
إحدى الزميلات هناك نشرت تحقيقا بعنوان: "موريتانيا تصدّر الكهرباء وتعيش في الظلام" كشفت فيه خبايا هذا القطاع ووثّقت إخفاقات منهجية بالاستناد إلى الحقائق. ونتيجة لذلك بدأت بعض الإصلاحات. واليوم هناك ثلّة من الصحفيين الشجعان، ممن يرغبون في تقصّي قضايا اجتماعية واقتصادية حسّاسة.
وبذلك أصبحت موريتانيا أنموذجا صالحا في مجال حرية الإعلام. هل يعني ذلك أن الحكومة الموريتانية تتعامل مع الصحفي كصديق. أبدا. فالصحفي وبخاصة المهني المستقل الذي يرفض تزوير الحقائق، يبقى في نظر السلطة عدوها الأساسي، بدلا من عدّه سندا في تنمية البلد وإرساء قواعد الحاكمية الراشدة في دولة القانون والمؤسسات والمواطنة.
لكن موريتانيا بعيدة كل البعد عن شجون وهموم المهنة المكئبة في منطقتنا. ففي مصر أغلق 21 موقعا إخباريا قبل أيام دون أن يرجف للحكومة جفن، بدعوى دعم الإرهاب والتطرف ونشر أخبار كاذبة، بحسب الرواية الرسمية. فالسلطات هناك لا تريد أي نوع من المعارضة حتى إنتهاء الولاية الرئاسية العام 2018. سياسة التخويف وعصا الإغلاق تتفاقمان منذ ثلاث سنوات. بالتزامن مع هذا القرار، تلّقت مؤسسات صحفية أوامر من جهات عليا من أجل كتابة مقالات وتقارير تنتقد هذه المواقع في ممارسات أصبحت اعتيادية. غالبية الصحفيين قرروا الاستسلام امام حال تكميم الأفواه او "بيع ضمائرهم" للعيش او الهجرة للخارج.
والحال من سيئ إلى أسوأ بالنسبة للصحفيين العرب بعد انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب. فهو دخل في صفقات مع الأنظمة الأوتوقراطية العربية المحافظة في مواجهة عوامل التغيير والقوى الصاعدة، وسعيا لترجيح كفّة مصالح الولايات المتحدة الأميركية المرتبطة بالأمن والنفط وشراء الأسلحة وشعارات مكافحة الإرهاب دون الغوص في جذوره.
اليوم تحذف من قاموس الدبلوماسية الأميركية كلمات مفتاحية ذات صلة بالحقوق السياسية وحقوق المرأة وإشاعة الديمقراطية وحقوق الإنسان لصالح استمرار سياسات ضرب الحريات وهدر الكرامة الإنسانية.