طناجر



في العام (2000) ...اصطحبت والدي , إلى مطعم في عمان الغربية ..كي نتناول الغداء , كنا قادمين من الكرك , والمسافة .. وحر الطريق جعلتنا نشعر بالجوع , جاء النادل إلينا ..حاملا المنيو , ولأن أبي لا يحمل نظارة القراءة قال له :- شو عندك عمو ...بدأ النادل لحظتها بقراءة لائحة الطعام :- (شوشبرك , يلنجي ...فتوش , بئلة , ..جنحان مطفاية ..الخ) ...صمت أبي قليلا ثم قل للنادل :- (عمو جيب اشي انغمسوا) ..وتدخلت أنا على الفور وطلبت :- قلاية بندورة بلحمة .


لم يكن أبي يهتم كثيرا بالطعام ..فأنا لم أشاهده في حياتي يجلس على الطاولة أكثر من دقائق معدودة , وكان يصف دوما الوجبات السريعة بأنها تمثل (الجيل المايص) بكل ما يتطلب الأمر من دلع .

فوجئت أمس بسيدة أردنية , يتابعها (2) مليون على السناب تشات , وهذه السيدة تمضي يوميا ساعات تبث من خلالها , حوارات الطناجر ..وكيفية طبخ الدجاج , وأهمية (نقع) ورق الدوالي , وكيفية الحصول على (الكركم) والكمية الواجب إضافتها ..على (المقلوبة) ..والأهم أنها تزور المطاعم وتقوم بتفقدها وبث دعايات لها عبر (السناب تشات) ...(2) مليون أردني يتابعون الطناجر , والأهم أن محلات الأغذية ترسل لها يوميا كما هائلا من الطبخات كي تقوم ببث أسماء المحلات عبر (السناب تشات) أيضا...

تعلمت من أبي أن لا اعترض على طعام يقدم في بيتنا , كان يقول لي دوما أن أساس الحياة هو الرضى , واتذكر أني حين كنت أقول بأني أريد شراء دفتر للرسم , أو مجموعة من أقلام الرصاص ...يعطيني أكثر من حاجتي وحين أطلب منه المال وأنا طفل لشراء (البوظة) ..يقول لي :- (مامعي فكة).

حين كنت طفلا , كان رمضان موزعا بين النوم , ومتابعة محمد متولي الشعراوي على التلفاز ..وأحيانا تناديني أمي كي أقرأ لها من المصحف كونها كانت (أمية) لا تجيد القراءة والكتابة ...الان رمضان مختلف فقد دخلت أمس على أقرباء لنا لتلبية دعوة إفطار وفوجئت أن الجميع جالس على (الموبايل) يتابع طناجر هذه السيدة , فقد طبخت ...(مندي) ..

كيف نتحدث عن الوعي , محاربة الفكرالظلامي ...وهناك (2) مليون تغريهم الطناجر , كيف نتحدث .. عن الأمة وضياعها , ومحاولة استنهاض الفكر القومي .. وهناك (2) مليون أردني يترقبون حركة هذه السيدة وأي مطعم ستزور ؟ ... كيف سنخرج من مديونية دمرت وجدان الناس وأرهقت اقتصادنا وهناك (2) مليون ....بعضهم يرسل برسائل للسيدة المصون يطالبها بطريقة عمل (الهرايس) .

الديوان الملكي بالأمس كرم مجموعة من الأردنيين في عيد الإستقلال لأنهم برزوا عبر خدمة مجتمعاتهم , وقدموا لمسة إنسانية , اضافت على تسامحنا ونسيجنا الإجتماعي الشيء الكثير ...و(2) مليون اردني يطاردون طناجر تلك السيدة وانواع بهاراتها , وهل الكركم مطحون أم حب ؟

في عالمنا العربي صدقوني الأزمة ليست أزمة أنظمة وسياسات رسمية ..هي أزمة طناجر ..أزمة شعب , أسئلته حول (قدحة الثوم) أكثر من اسئلته حول الفكر الظلامي ...

رحم الله أبي .