الضوضاء على التنوير


ليس في الأردن تيار تنويري واضح ومتماسك، ولكنّه موجودٌ على شكل جيوب من الفكر الحرّ الذي لم يتلوّث بعدُ بإخوانيّةٍ أو سلفيّةٍ. وموجودٌ على شكلِ مبادراتٍ نبيلةٍ تُعلي قيمَ الجمالِ، كمثل فرقة "تجلّى" أو موسيقى الشرفات، أو أوركسترا السلط، أو "إرث الأردن" أو "غابة قرنوسي" أو مشروع الفنان والمعماري عمار خماش في توثيق جيولوجيا الأردن وعالم النبات فيه، وعدد مهولٍ من المبادرات النسائية التي تحاول رفع الظلمِ والعَنَتِ عن المرأةِ والأطفال، أو نصرةً للبيئةِ وحفاظاً على الصحة العامة، أو اختراق الجمود الثقافي ونشله من تدهوره.

ولكن هذه الجيوب التنويريّة التي تهتم بحريّة الفكر، وبروح الفنون، وبدفعِ الظلاميّة المخيّمة كقدرٍ بشعٍ، تحاول أن تتلملم وتتوحّد في تيارٍ، ليكون له صوتٌ مسموعٌ في مصائرنا، وكيانٌ مرموقٌ بعينِ لا الاحترام فحسب، بل والإعجاب. وإذا كان من الضروريّ أن ننوّهَ، فلكي نقولَ إن التنوير الذي نسعى إليه إنما هو الذي كان وراء نهوضِ الأمم الحديثة، وتقديمها مساهماتٍ جديّة في الحضارة الإنسانيّة. فمن دون خطى التنوير سنظل نجرشُ ماضينا على حاضرنا البائس، ونستهلك كل قصص الشعوذة والخرافات القائمة على تغييب العقلِ واحتقاره وتأنيبه ومصادرته بالتكفيرِ والتخوين عندما يتمادى!
يقوم فكرُ التنوير على تحرير العقلِ والإرادة الإنسانيّة، لاكتشافِ آفاقِ المعرفة والكون، دون أن يقصدَ إلى المساس بالوجدانِ وما يطمحُ إلى الايمان به من دينٍ أو عقيدة. فتلك مسألةٌ فرديّة تشكّلُ حاجةً فرديّةً لطمأنة الفرد إلى كيانٍ غير متناهٍ يسندهُ في مِحَنِه. وهو فكرٌ يتوخّى النهوضَ من انحطاطٍ تتآكلُ فيه الثقافةُ والأديانُ نفسُها لصالح قراءاتٍ متعنّتة وتأويلاتٍ تصفعُ العقلَ وتديرُ الشبهات حول استعماله. ولذا فإن ما يُقالُ اليوم في قلاعِ المحافظةِ والسلفيّة عن التنوير وشتمِ دعاته، ليس سوى حيثيّة صغيرة من حيثيات مقاومة التغيير التي تتشبّثُ بها هذه القلاع وأصحابها، وما لها من مصالح تنفقُ عليها مصادرُ مريبةٌ من دولٍ تنشرُ التخلفَ على هيئةِ رسالةٍ عظيمةٍ.
ولذا، ولأنّه من المتوقّع أن تستيقظ قوى الشدّ العكسي وتُعمل معاولَها وسيوفها التنك، فإنه لن يضير تيار التنوير أن يخوضَ هذه المعركة مع البنيان المتآكل للظلاميّة ذات الطبيعة الهشّة، التي لا تصمد أمام منطقٍ ولا تساؤلٍ صغير. فطفلةٌ في الرابع الابتدائي تستطيعُ أن تقهرَ مؤسّسةً ضخمةً من الترعيب باسم الدين، والتخويفِ من عذابِ القبرِ والثعبان الأقرع، بسؤالٍ بسيطٍ: لم تغيبون عني صورةَ الرحمن الرحيم؟ وتؤكدون على معذّبِ البشر؟
ولذا دعونا أن لا نفقد الأمل..!