فصل دحلان وقصة الشـراكة مع عباس

 


 


طوال سنوات، ربما امتدت ما بين عام 2002 وحتى وقت لا يبدو بعيدا، كان مصطلح (عباس- دحلان) سائدا في الخطاب السياسي، لكأننا إزاء ثنائي لا تنفصم عراه، فهو الثنائي الذي توحد في مواجهة الراحل ياسر عرفات، بدءًا بمحاولة انقلاب مسلح عليه نفذها دحلان ودعم عباس، وربما قبل ذلك عبر رفض ما يعرف بعسكرة الانتفاضة، وليس انتهاء بالهجوم المتواصل على حركة حماس.

من الواضح أننا إزاء شراكة فرضتها معادلات السياسة، لاسيما أن الجهات التي استثمرت في الرجلين هي ذاتها، أعني الغرب والولايات المتحدة، برضا وربما بطلب من الدولة العبرية، وبالطبع بعد قرار شارون التخلص من عرفات والذهاب نحو ما يعرف بالحل الانتقالي بعيد المدى الذي بدأ بالانسحاب من غزة كمرحلة أولى، وصولا إلى حدود الجدار كحل يمتد لسنوات طويلة.

نتذكر أن المستثمرين إياهم قد سعوا لفرضهما على عرفات في حياته بعد محاصرته في رام الله، وقد نجحوا بالفعل، كما فرضوا عليه سلام فياض وزيرا للمالية أيضا، لكنه ظل يناور بطرقه المعهودة، فكانت النهاية التي منحها النظام المصري الغطاء مقابل دعم التوريث، والتي أفضت تاليا إلى تمرير القيادة بيسر وسهولة إلى محمود عباس بشراكة مع دحلان وفياض.

كان منطق الاستثمار في دحلان يستند أولا إلى سيطرته شبه المطلقة على تنظيم فتح في قطاع غزة (كان جبريل الرجوب هو الشخص المقابل له في الضفة خلال التسعينات)، ومن ثم قدرته على التصدي لحركة حماس كما اتضح خلال تجربة التسعينات بعد إنشاء سلطة أوسلو. أما عباس فكان في حاجة لدحلان من أجل تثبيت وضعه الداخلي في الحركة، هو الذي لم يعرف عنه الاهتمام بالتنظيم والعمل الشعبي.

بعد استقرار عباس في سدة الرئاسة، بدأت معادلة السياسة والحكم تأخذ مفاعيلها، فنظام الرأسين لا يمكن أن يستمر، لا في السلطة ولا في أية دولة أو حتى مؤسسة عادية، ولا بد أن ينتهي إلى الصدام وكسر أحدهما للآخر، أو انحناء أحدهما على نحو يلغي معادلة الرأسين.

جاءت انتخابات (2006) التي خسرتها فتح لتبقي دحلان ندا للرئيس تبعا للفوز الكبير الذي حققه في غزة قياسا بسقوط رؤوس كبيرة في فتح، لكن وقتا طويلا لم يكد يمضي حتى بدأت مرحلة التقهقر إثر الحسم العسكري الذي نفذته حماس منتصف حزيران 2007، وها هو دحلان في رسالته يتهم عباس بما يشبه الصراحة بالتواطؤ مع الحسم العسكري عبر ما قال إنه «توجيه جزء كبير من الإمكانات المادية والتسليح لحرس الرئاسة، ثم إخراج الحرس من المعركة!! وربط ذلك بتصريحه قبل يومين من الانقلاب (بأنه لا يستطيع لوم أحد الأطراف، وإنه يناشد الطرفين وقف القتال!!!)».

عند هذا المنعطف، ومع خروجه من معقله القوي في القطاع، لم يعد بالإمكان القول إن دحلان قد بقي رأسا ينافس عباس الذي خرج بدوره من اللعبة بقوة استثنائية كرئيس للسلطة والمنظمة واللجنة المركزية في آن، لكن نجاح دحلان في اختراق اللجنة المركزية ومعه عدد من أنصاره، وملامح تغلغله في الضفة الغربية (وشرائه لبعض أجنحة كتائب الأقصى) من خلال المال، مع استمرار سيطرته على تنظيم غزة من الخارج، كل ذلك لم يلبث أن أخذ يخيف الرئيس، لاسيما أن معلومات قد توفرت يصعب الجزم بصحتها تقول إن دحلان يحضر لانقلاب، وعندما ضرب الأخير على الوتر الحساس للرئيس ممثلا في نشاطات أبنائه الاقتصادية، لم يعد ثمة مناص من مواجهته.

كانت المحاولة الأولى قبل شهور، ويبدو أنها انتهت بتسوية «عشائرية» لا تعرف تفاصيلها، لكنها تضمنت إنكار دحلان التعرض لنجلي الرئيس، مع يد عليا للأخير، ويبدو أن الرئيس قد مال من جديد إلى إقصاء الرجل والتخلص من الصداع الذي يسببه عبر جراحة تمثلت في فصله من الحركة بتهم «فساد وقتل» كما قيل، مع تحويله للنائب العام من أجل التحقيق معه.

من الصعب القول إن القصة قد انتهت على هذا النحو، وتراث فتح على صعيد المعارك الداخلية لا يمنحنا فرصة الجزم بنهايتها، لاسيما أن الرجل المستهدف ليس شخصا عاديا يمكنهم التخلص منه بسهولة، كما وقع مع نبيل عمرو أو نصر يوسف أو سواهما ممن استُبعدوا في انتخابات اللجنة المركزية، كما أن الجهات التي استثمرت فيه (أعني دحلان) بجهد كبير وبمئات الملايين لن تتخلى عنه بهذه السهولة، هي التي تدرك فوائد وجوده من الناحية الأمنية والسياسية. ولا تسأل بعد ذلك عن قوته الذاتية ممثلة فيما يمتلكه من أموال ومعلومات ووثائق، وما ذكره في رسالته الأخيرة بخصوص أموال لا يُعرف مصيرها تتمثل في صندوق الاستثمار (مليار و300 مليون دولار) وأموال حركة فتح (حوالي 250 مليون دولار نقدا و350 ممتلكات عينية)، دليل على ذلك.

لعل الأكثر إثارة في قصة دحلان ورسالته «العرمرية» الأخيرة هو ما يتعلق بمحاولته تقديم نفسه كمنقذ لحركة فتح، كما هو حال قوله في نهاية الرسالة «وإنها لثورة حتى النصر، شعار كدنا ننساه في عهد الرئيس أبو مازن»، متجاهلا مواقفه على صعيد التفاوض والتنسيق الأمني.

إنها أزمة حركة فتح؛ تنظيما وخطابا وسياسات ومواقف، وهي أكبر من ثنائية (دحلان – عباس) التي لا تغادر لعبة المنافسة الشخصية، وما لم تبادر القوى الأخرى، وفي مقدمتها حماس إلى تجاوز الحركة وبرنامجها المنسجم مع مسار السلام الاقتصادي لصاحبه نتنياهو (فرصة استعادتها كحركة تحرر تبدو مستحيلة)، فإن الوضع سيبقى على بؤسه المقيم إلى أن يفجر الشارع الفلسطيني انتفاضته الثالثة، وتبدأ مرحلة جديدة تنسجم مع الربيع العربي وتحولاته الرائعة.