الصحافة الورقية واختبار الولاء

في المنعطفات العاصفة يُمتحن القلب. كما أنّ الولاء يخضع لأصعب الرهانات في خضمّ تلك العواصف. والولاء يتوجه إلى القضايا جميعها بدءاً من الوطن والحب والصداقة، إلى الولاء إلى جهة أو فكرة أو مؤسسة.

 

 

في هذه الغضون، أعلنت صحيفة «النهار» اللبنانية حجب معظم مواضيعها وتقاريرها الخاصة عن قراء موقعها الإلكتروني، لتصبح هذه الخدمة مدفوعة مسبقاً، وذلك في إطار خطة للحيلولة دون توقف الصحيفة، أو الاستغناء عن العاملين فيها.

 

 

سيكون على قرّاء «النهار» إذا إرادوا استمرار الصحيفة في أداء وظيفتها أن يساهموا في دفع 6 دولارات أميركية شهرياً، وهو مبلغ زهيد يزيد عن ذلك الذي كان يدفع لشراء ثلاثين عدداً من الجريدة الورقية كلّ شهر.

 

 

وليس جديداً أمر الخدمة المدفوعة للتقارير المتخصّصة، فهذا أمر مألوف وتتبعه وسائل إعلام ومراكز أبحاث ودراسات، لكنّ الجديد على المستوى العربي أن تتمثّل التجربة ذاتها صحيفة تنشد أن تموّل نفسها من خلال قرّائها، بحيث تحتفظ باستقلاليتها بعيداً من إكراهات التمويل وحساباته السياسية.

 

 

التجربة بدأت قبل نحو شهر، وبحاجة إلى مزيد من الوقت لاختبار نجاعتها. وفي حال نجاحها ستكون فاتحة لسلوك هذا الدرب من قبل صحف ورقية كثيرة في العالم العربي تحدّق فيها المصائر السوداء، وتسيّج العاملين فيها مشاعر التوتر وانعدام الأمل.

 

 

يعود مبدأ الولاء ليكون حاسماً في هذه المرحلة، فإذا كان قراء منبر إعلامي عربي حريصين على بقائه، فلن تهزّ موازنتهم الشهرية الدولارات الستة. ولعل الأمر يتعدى صحيفة بعينها ليصبح اختباراً للولاء بذاته بوصفه فعلاً أخلاقياً يوثّق علاقة ما بين طرفين، وكلما كان الوثاق متيناً كان الفعل الأخلاقي حقيقياً وأصيلاً ومبنيّاً على ثقة وإيمان.

 

 

وما يجعل الاختبار محفوفاً بالأخطار أنّ فضاء الميديا مملوء بالخيارات والبدائل. فالمتصفّح إن لم يجد ما يزوّده بالأخبار في هذا الموقع، يلجأ برمشة عين إلى سواه، وليس مضطراً بالتالي ليدفع أي دولار، ما يجعل الأمر يتعدّى الأخبار إلى البقاء على حيوية المنبر الإعلامي المفضّل، ودعمه وتمكينه من الوقوف على قدميه، كجزء من تسديد العرفان لهذا المنبر الذي قدّم معرفة راقية لذلك القارئ وارتقى بتوقعاته ولم يخذله.

 

 

الصحيفة، إلكترونية كانت أم ورقية، هي في النتيجة سلعة. فأنتّ إذا كنت مستهلكاً وفياً وذهبت إلى مركز التسوّق ولم تعثر على سلعتك المفضّلة فقد تلجأ للبحث عنها في مراكز وأسواق أخرى. هذا هو الولاء الذي تراهن عليه الصحيفة اللبنانية، وقد تعبّد الطريق في حال نجاح التجربة، ونرجو ذلك، أمام وسائل إعلام كثيرة تعاني مخاضات الإغلاق والتوقف والاستغناء عن العاملين. واضطرت إلى هذا الخيار صحف عالمية كثيرة مثل «واشنطن بوست» و «نيويورك تايمز» و «وول ستريت جورنال» و «تايمز» و «صن» وحققت نجاحاً مكنها من البقاء والصدور وتزويد قرائها بالمعرفة التي اعتادوها وألفوها، على أن ذلك يقتضي الامتثال لقواعد النشر الإلكتروني وتقنياته وتطبيقاته على الهواتف الذكية، والخدمات التي تتفرّع عن الأخبار العاجلة والسريعة وأفلام الفيديو والمواد الصحافية المقدّمة عبر المنصّات المتعدّدة.

 

 

المهمة شاقة بلا شك، لكنّ البقاء في حمى التنافس، وتفادي السقوط، يستحق خوض التجربة، وبالتالي تأهيل العاملين في هذه المنصات القادمين أكثرهم من عالم الصحافة الكلاسيكي، بحيث يكونون مستعدين لتجربة مغايرة تحتفظ ربما بمزايا الصحافة في قواعدها الأساسية، وتفترق عنها في المقاربات. ولعل تلك المقاربات هي أكثر ما يجعل الرهان على الصمود أمراً ممكناً أو حلماً مستحيلاً!