رثاء الاستشاري الطبيب الجراح عبد الله سلمان القضاة



كم أثلجت صدورنا حروف كلماتكم الحزينة الدامعة، تلك التي تنساب تترى حارقة ما تبقى من هالات عتمات العيون بليزر صدقها. ثم وكم وجدناها زفراتكم الصادقة الدافئة تتناثر عبر طيات مقالتكم التي ترثون فيها أخانا وأخيكم وزميلكم في المجال الطبي، الأمر الذي يكاد يصعب معه علينا مقابلة طِيب أصلكم ونبالة أخلاقكم أيها الصديق الوفي الأخ الدكتور إبراهيم محمد قاسم الهنداوي الموقر.

ثم إننا حقا قد أحسسنا ومضات رثائكم تتسارع مع نبضات القلوب المكلومة إثر رحيل أخيكم وزميلكم وأخينا وولدنا الأخ الدكتور عبد الله سلمان العبد الحافظ القضاة أبا م حسام، الأمر الذي أضفى شكلا من أشكال الطمأنينة على أنات نغمات ألحان الحزن الذي دَبَّ على قلوب الجميع هكذا كالصاعقة.

بل، وكم خفف من جلل مصاب الجميع أن نراكم تكحلون بقايا أهداب العيون التي تلظّت بحرارة الرحيل المفاجئ لقامة ربما تكون كما ترونها من القامات العالية في خدمة الإنسانية، لكنها ربما تكون أيضا لجبهة من الجباه الخافضة جناحها في سفر التواضع والرحمة، ولابتسامة طالما ارتسمت على شفاه صاحبها النطاسي الراحل، مُهداة من لدن من نذر نفسه طائعا لخدمة البشرية دون أدنى تمييز في لون أو عِرق أو ديانة أو مذهب.

نعم، ذاك هو ابن الإنسانية الذي تربى في لَفّة الوالدة الراحلة فَضِيّة وترعرع في مرعى الوالد الراحل سلمان، شريك دربها الطويل إلى بر الأمان، بل إنه ليعتبر من إجحاف التاريخ بمكان، ذاك لو أننا لم نشر إلى لوحة أخرى من بذور الماضي العتيق، ذاك لو أغفلنا زمالة ورود الأصالة ورفقة دحنون الصِبا بين والدتنا فضية ووالدتنا الروحية الأخرى خالتنا جوليا والدة الأديب المرهف والشاعر الملهم أستاذنا الكبير إدوارد عويس، نجل عمنا الفاضل توما دخل الله عويس.
ثم، لو أزلنا الغمامة قليلا لوجدنا أنفسنا وقد تربينا في الأحضان الدافئة الطاهرة للجد العزيز الراحل علي المصطفى القصاص العبد العزيز القضاة، الذي يُشكل العم الكبير القاضي الشيخ محمد أمين القضاة أبو الدكتور معن الامتداد النبيل لسلالته الطاهرة الشريفة أو لتلك الجذور العريقة العتيقة الراسية في عمق التاريخ.

إذاً، ما بين منابر الإيمان وصالات القداسة، يرحل فقيد الإنسانية، والد أحباء عمهم كاتب هذه الكلمات المبعثرة في حدائق الأحزان، كلا من المهندس حسام نجل الدكتور عبد الله ووالد حبيبات عمهم الدكتورة هيا العبد الله والجامعية بان العبد الله والصيدلانية آية العبد الله، وصديق عمه طالب الطب الواعد محمد العبد الله.

ثم، وعلى صدى تهاليل المساجد وترنيمات الكنائس تسير مراسم الفقيد حاملا مريوله الأبيض إلى دار الحق، وتاركا خلفه مراييله البيضاء الأخرى ما بين أروقة العيادات أو جنبات الحقول الطبية أو على أكتاف النشامى والكريمات ممن يعترفون بجميل عِرفانهم بأنهم زاملوه أو تتلمذوا على يديه، ذلك بعد أن تتلمذ هو نفسه في ربوع فرنسا على أيادٍ بعضها من أتباع كل الديانات.

ولقد كنت قد عدت تَوَّاً من رحلة علاجية في ميونخ برفقة شريكة دربي منال البصول والدة أنجالنا وكريماتنا المهندس الطبي راني والإعلامي أحمد وأستاذة اللغة الإنجليزية الجامعية ريما "أم محمد" وطالب الماجستير سلمان والدكتورة لارا والدكتورة رؤى والمهندس المدني الواعد عبد الله، عدت إلى الدوحة تاركا صغيرنا مع والدته في مركز القلب الألماني بميونخ والميديكال بارك في باد فيزيه جنوبيها.

كنت قد عدت توا لأسلم جوازي سفري القديم والجديد وبطاقة الإقامة لنقلها من القديم إلى الجديد وذلك في الرابع والعشرين من نيسان/أبريل 2017 أو الشهر الماضي، ذلك لأعود من عملي في الجزيرة الفضائية إلى منزلي بنفس الدوحة عصر السادس والعشرين من الشهر ذاته، ولألقي نظرة خاطفة على الهاتف النقال كعادتي، لكنها كانت نظرة صاعقة هذه المرة.

إذ تقول الرسالة أن انتقل إلى رحمة الله الدكتور عبد الله سلمان العبد الحافظ القضاة أبو حسام...
آهٍ، إذ يكون قد انمسح من قلبه الوجدان ربما من يقول إن الرجال لا يبكون فارسا مترجلا برحيلا، آهٍ وقد يكون قد جانبه الصواب ربما من قال إن الرجال لا يشهقون زئيرا أو زفيرا أو يصرخون عويلا.

أعلاه يجيئ ردا وامضا على حبات اللآلئ الروحانية التي أمطر بها الدكتور إبراهيم الهنداوي الموقر، أجواء العرفان، ورشرش من خلالها زخات من الرجاء بالرحمة والمغفرة وفسيح الجنان لزميله الراحل تحت عنوان رحيل طبيب فذ.

ثم ليت بيننا والروح الطاهرة للشقيق الراحل البروفسور عبد الله القضاة أبا حسام شكلا من أشكال الاتصال، ذاك لكنا همسنا لها أن البلابل صار يضطرب لحن تغريداتها وهي توقف أنغام الفرح لتطلق العنان لناقوس الوداع الأخير.

نعم، يا أبا حسام، وإن المرء ليكاد يستشعر أحزان العصافير وهي تبدل موجات نغمة زقزقاتها في حديقة الدار، بل ويلحظ الحمائم وهي تستبدل هديلها نواحا على أرفف المباني وأغصان الشجر.

ليتك طرقت الباب كما طَرقَت بابك حمائم الرحمة، لكان ربما تحليقنا عاليا، بعيدا ومشتركا، فما أجمله من رحيل عندما يكون على شكل جماعات، أو يدا بيد لشقيقين وهما يلتحقان بكوكبة السابقين.

آهٍ، أبا حسام، كيف لمحبيك ولنا، نمر في أروقة المستشفيات أو نشاهد المؤتمرات الطبية في محافلها الدولية، ولا يكون طيفكم البسّام المعطاء يصدح هنا على هذا المنبر، أو يهرول هناك لإنقاذ عليل.

بقي القول، شقيقي، إنها تبكيك وترثيك كل الطواقم الطبية التي عرفت فيك روح العطاء وصدق الانتماء للإنسانية جمعاء، تبكيك عيون كل من أسهمت صادقا في نقل المعلومة إليهم أجيالا بعد أجيال.

بل وتبكيك كل أم أسهمت في إنقاذ وليدها، أو جدة جَبَرت في خاطرها، أو عمة أمسكت بيديك المجردتين القلب المتناثر لفلذة كبدها، بواحدة تُمسك لتخيط بالأخرى جراحه الساخنة.

وأما العمات والخالات الراحلات فربما تجنبن حرارة الحزن على فقدانك، واسمح لي أن أوصيك أن أبلغ السلام لكل السابقين، أبلغه للوالد سلمان والوالدة فضية، أبلغه لأشقائنا محمد الأول وأحمد وشقيقاتنا فريدة الأولى وفريدة الأخرى، أبلغه لأحفاد سلمان وفضيه كلا من ريما الإبراهيم ومصطفى المحمد وأحمد العبد الله وعبد الحافظ المحمد، أبلغه لكل الراحلين، وللخالة جوليا والعم توما والأستاذ إدوارد عويس، أبلغه لكل الأجداد والجدات، والأعمام والعمات والأخوال والخالات وكل ذرياتهم الراحلة.

ومن يدري، فقريبا أو بعيدا، فقد يلتحق بك العديد من هذه البذرة الطيبة، من كوكبة الفرسان أو هوادج الكريمات، كل بحسب أجله المكتوب، ذلك لأننا، إنا لله وإنا إليه راجعون.

وأما قبل أن أودع طيفك فأقول، ليتك قرأت رسالة العم القاضي أبا معن إلينا، وليتك رأيت حرمه المصون الأخت الفاضلة الشيخة أم معن وهي تقيم لك مأتما لثلاثة أيام بلياليها، بل ليتك رأيت الشباب والكريمات الذين واللواتي لا يتسع المقام للخوض بجميل أفعالهم في حفل مراسم رحيلك.

وأما النعاة والمودعون، فربما لا مجال لموسوعة تفاصيل خطواتهم وخُطاهم، فلقد لجَّت عليك الدنيا بقضها وقضيضها، وتواكبت من كل حدب وصوب بأسرها، ذاك للدرجة التي أكاد أغبطك على جماهير الأوفياء لك والمحبين، وسأبقى أقول ولقد أشعل آل عويس الكرام شموعهم، ولقد شرّع آل أبا معن أبوابهم. وأما شقيقتاك أم سامر وأم رعد، فقد انفطر قلباهما بعدك، فوداعا. وعليك رحمة من الله ولك منه سبحانه مغفرة وفسيح الجنان.