«فيروسات» في جسد التنمية

هناك مثل قديم يقول «القراد يثور الجمل» والقراد حشرة صغيرة تتعلق بالماشية وتتغدى بدمها وعندما تفعل ذلك مع الجمل يثور. والمعنى هنا أن الحشرة على صغرها وحقارتها قد تنكد على الجمل بقوته وضخامته. أوردت هذا المثل بغرض التنبيه من بعض الطفيليات التي نعاني منها في بيروقراطية العمل الحكومي وتمنح بعض ضعاف النفوس الفرصة لبعض الابتزاز في سبيل تسريع الإجراء، وعندما لا يستجيب المراجع فإن طلبه قد «يتأخر» ويتأخر معه بدء النشاط. معظم ذلك يحدث أثناء طلب التراخيص للقيام بعمل ما. على سبيل المثل وليس الحصر التراخيص الصغيرة التي تصدرها البلديات، تراخيص الجهات الصحية عند فتح عيادات أو أي جهة أخرى ذات علاقة، ومنها الحصول على التأشيرات ورخص العمل. تناولت هذا الموضوع لأنني أسمع عنه في شكل متكرر وبتشابه عجيب في الروايات في مجالس مختلفة عدة ويعاني منه معظم المتقدمين لفتح عمل تجاري جديد. هذا التعطيل المتعمد عموماً، صغيره وكبيره،

 

 

يعتبر من أكبر معوقات التنمية ووجوده في أي بيئة يعني خوف المستثمرين من الدخول في الاستثمارات كونه قد يخفي عوامل أخرى أعظم وأهم.

 

 

في هذا الزمن المتفائل بحاضر وغدٍ أفضل، لا بد من الالتفات إلى وجود هذه الفيروسات. لا نتوقع بالطبع من طالب التراخيص القيام بشكوى ضد هذا الموظف الرديء لأن همّ التاجر الأول والأخير الحصول على الموافقات حتى يمارس عمله وبأسرع وقت، وقد يضطر أحياناً لتسيير أموره بطرق غير شرعية. المطلوب هنا وكما هو معمول به في دول متقدمة عدة هو الإيقاع بمثل هؤلاء بالجرم المشهود من خلال عمل تجسسي تتنكر فيه الجهات الرقابية وتقدم طلبات وهمية للجهات المعنية مع توثيق كل خطوة بالتصوير الخفي بعيداً عن ملاحظة الموظف. في أميركا تقوم الـ «FBI» بذلك من وقت الى آخر وفي أحيان كثيرة تقوم محطات التلفزيون هناك بالعمل نفسه كتقرير صحافي بحثي Investigative Journalism. كان برنامج «تايم لاين» الذي يوظف المئات من العاملين يعتبر من أشهر البرامج وأقدرها مهارة في كشف الممارسات الخاطئة. في المملكة تستطيع المباحث الإدارية القيام بمثل هذه المهمات بل إن هذا من أهم الواجبات وتستطيع قنوات تلفزيونية عمل ذلك أيضاً.

 

 

أعرف أن من برامج التحول الوطني تطوير الأداء الحكومي وفك تعقيدات البيروقراطية، بحيث يتحول إلى عمل ممنهج وواضح وسهل ويسد كل الثغرات ويشجع المواطن على التقدم لطلب الموافقات بأسرع وقت وبطريقة متقنة ومشجعة. ولو أن عامل الزمن يدعم ترتيب الأولويات بحيث لا نقدم على خطوة إلا بعد إنجاز الخطوة السابقة لها لطالبنا بضرورة التريث حتى نجاح برنامج التحول الوطني أولاً قبل البدء في تطبيق الرؤية، لكننا مضطرون للسير في خطوط متوازية في سباق محموم مع الزمن. تطوير عملية إجراء الحصول على التراخيص مثلاً يتطلب فقط التدريب وتوفير الربط الآلي بين الجهات ذات العلاقة في منح الترخيص. يأتي طالب المهمة (المستفيد) إلى شباك واحد عوضاً عن حمل الأوراق من مكتب الى آخر والتنقل أحياناً بالسيارة من مكتب الى آخر. هذا ما نجحت الأحوال المدنية فيه على رغم خطورة وحساسية مهماتها الأمنية، حتى أصبح الحصول على الجواز يتم ربما عبر الإنترنت.

 

 

وما دام الشيء بالشيء يذكر، فإن هذه البيروقراطية وأقولها جازماً وفضلاً عن كونها تخلق بيئة للفساد فهي السبب أيضاً في تشجيع البعض ممن يملك تراخيص ويمارس العمل التجاري على الوقوع في مخالفات الغش التي نسمع عنها من وقت لآخر، وخصوصاً في المطاعم والتخزين والتجزئة. كم مرة سمعنا وشاهدنا ممارسات مضرة جداً كحفظ بعض المثلجات ذات التواريخ المنتهية أو تحضير الأطعمة بطرق عفنة وتحمل كل الأخطار بالصحة. لو أن النظام الرقابي وبدلاً مما يسمى بحملات موقتة، متماسك من حيث الإيقاع بالمخالفين وإنزال العقوبات والتشهير طوال العام لتناقصت أعداد هذه الحالات بل قد تتلاشى تماماً. ويمكنني هنا إضافة ظاهرة عجيبة وغريبة وذات علاقة غير مباشرة، وهي إقفال الحركة التجارية معظم ساعات النهار بدءاً من وقت صلاة الظهر. يلجأ التاجر لتوقف النشاط التجاري بهذا الشكل تفادياً لتوظيف شخصين في فترتين، إذ يكتفي بشخص واحد مع منحه «الراحة» لمدة أربع ساعات. هذا تعطيل واضح لا مبرر له ولا يشجع على سرعة الإنجاز. هل بالإمكان فرض ساعات العمل بحيث لا تصبح خدمة العملاء رهناً على مزاج وعبقرية بعض التجار؟

 

 

وفي سبيل الرقي بالعمل ورفع مستوى الأمانة، لا بد أيضاً من توافر وسائل التحفيز لدى الموظف الحكومي. من ذلك مثلاً عدد حالات الإنجاز في اليوم أو في الأسبوع. هل يوجد لدى تلك الجهات تحفيز يحدد قدرات كل موظف مسؤول وذلك بعدد حالات الإنجاز التي قام بها، وهذا برنامج بسيط يمكن القيام به بسهولة؟ وفي المقابل، هل نعاقب من يتسبب في تعطيل مصالح الناس ومنحهم التراخيص تحت حجج واهية ونثبت ذلك بعامل الوقت؟

 

 

علينا أن ندرك أن مستويات الرضا والطمأنينة لدى المقيم والزائر والمستثمرين وتفاعلهم تعتبر محوراً رئيساً في نجاح رؤية السعودية المنتظرة. تحقيق الرضا والثقة يعتمد على حلقات متصلة بعضها صغير وقد لا تبدو مهمة للظاهر كما أشرت أعلاه، وبعضها قوي ومثير للرعب. حتى عندما تشاهد رصيفاً متسخاً وأرضية متحطمة في مكان يفترض أن يكون معداً للمشاة ولم تتم صيانته، أو عندما تشاهد تهوراً في السير أو عدم احترام لطابور أو موقف، فإن هذه المشاهد لا تعني فقط تلك الحالات، ولكنها تبعث على شعور أوسع بفقدان الثقة بنظام المراقبة والمتابعة برمته حتى وهي صغيرة وقد لا تبدو مهمة، والعكس صحيح.

 

 

كان لحديث الأمير محمد بن سلمان في برنامج «الثامنة» مع داود الشريان قبل أسبوع صدى واسع وقبول كبير، كونه أتى في غاية الوضوح والدقة ومن مهندس الرؤية نفسه والمسؤول عن إنجاحها. وما حديثي هنا إلا محاولة لإلقاء الضوء على الممارسات الصغيرة التي قد لا ترى بالعين المجردة ولا تظهر في عروض الإنجازات في جلسات مجلس التنمية والاقتصاد مقارنة بخطوط الرؤية العريضة. ومع هذا، فأضرارها مزعجة وتسبب النكد والإحباط من حيث كونها تسبب البطء في بدء النشاط وتنذر بوجود نوع من الخيانة وتأدية الأمانة. وما قد يولد صغيراً فإنه سينمو ويتضخم، إذا لم نجهز عليه ونزلْه في المهد.

 

 

علينا ألا نظن بأننا قادرون على ارتداء بدلة التوكسيدو الأنيقة ونتجاهل اختيار الجوارب ونقبل بحذاء ممزق. التشجيع على فتح الاستثمار وتنوع مصادر الدخل بنجاح يتطلب كسب راحة المستثمر من خلال إعادة النظر في جميع الآليات المتعلقة بطلبه وممارسته في ما بعد للعمل التجاري. علينا إخضاع كل إجراء لاختبار المرونة والزمن وتقدير درجته والتعرف الى التعقيدات الموروثة بداخله وإزالتها بعزيمة وسرعة وإصرار مهما بلغت التكاليف ومهما تضرر البعض ممن يستغل وجودها لمكتسبات شخصية.

 

 

 

 

 

 

 

 

* كاتب سعودي

 

 

للكاتبTags not available