هذا اليسار الأوروبي المعوّق

يواجه اليسار الأوروبي التقليدي تحدياتٍ كبيرة في ظل الحالة المزرية التي انتهى إليها مشروع اتحاد دول القارة والانسدادات التي تعاني منها آفاق أي مخرج ممكن له. وحينما تُرفع أعلام كوريا الشمالية خلال مسيرات عيد العمال في القارة العجوز، حينها يبدو اليسار وكأنه بات عبارة عن كرنفالٍ نوستالجي لا أكثر.

 

 

حري القول إن اليسار التقليدي فشل في تكوين رؤى مستقبلية لقضايا شغلت أصحاب الدخول المنخفضة والوسطى في المجتمعات الأوروبية خلال العقدين الماضيين من قبيل: اندثار العملة الوطنية، أزمة اليورو، ارتفاع البطالة وإهمال فئة المتقاعدين المتزايدة عددياً، وهي مسائل أصبحت تحتل أولوية أدبيات الأحزاب اليمينية. كما أنه رسب في امتحاني الهجرة والإرهاب، بل ويُتهم بأنه تقاعس فيهما، وهما ملفان لطالما اعتبرا من نقاط قوة الخطاب اليميني أصلاً. وعلى ما يظهر، فإن اليسار الأوروبي انشغل خلال تلك الفترة بما يجري في الضفة الأخرى من الأطلسي، فناكف بوش الابن في حربه العراقية عبر المسيرات المليونية في لندن وعمد إلى شيطنته، ثم سوّق أوباما بطريقة يحسده عليها أبرع رجال الأعمال الحاذقين ومنحه نوبل للسلام، ثم رمى بثقله إعلامياً وراء هيلاري فحصد الخيبة.

 

 

والمفارقة هنا أن الأحزاب اليمينية التي توصف بـ «الشعبوية» نجحت خلال الأعوام الأخيرة في سحب جوهر الشرعية من اليسار وهو: تمثيل الطبقة العاملة والنقابات. فأضحت تلك الأحزاب تتحدث بلسان المهمشين والعاطلين من العمل و «الكادحين» وتقدّم الحلول العملية لما يقلق المواطن العادي في أمنه الاقتصادي والاجتماعي، بينما يشير منتقدو اليسار التقليدي إلى أنه تحول بالتدريج إلى متحدثٍ باسم المهاجرين همّه الوحيد أن يعوض قاعدته الانتخابية المتآكلة بالاعتماد عليهم، أو أنه أصبح مطيّة للمنظمات غير الحكومية المتعولمة والشركات متعددة الجنسية من حيث لا يدري، ولا ينفكون يذكّرون بفضائح الفساد المالي والأخلاقي التي ضربت أحزاب يسارية كبرى عدة.

 

 

وللتدليل على التراجع الواضح في الشعبية، أمكن ملاحظة الخسارة الموجعة التي تعرض إليها حزب العمال البريطاني في انتخابات المجالس المحلية مؤخراً بانخفاض عدد ممثليه بمقدار 320 مقعداً وفقدانه الكثير من الأصوات في الوسط والشمال الصناعيين حيث اقترع غالبية ناخبي تلك المنطقتين لمصلحة «بريكزيت». وفي هولندا، هوت مقاعد حزب العمال في الانتخابات قبل شهرين من 38 إلى 9 فقط. وهكذا كان حال «العمال» في إرلندا (رغم أنها دولة طرفية) حيث لم يحظَ في انتخابات العام الماضي إلا بسبعة مقاعد ليخسر بذلك 26 نائباً. أما في فرنسا، ففشل مرشح الحزب الاشتراكي بونوا آمون فشلاً مخجلاً بعدما نال 6 في المئة من الأصوات فحسب في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية. ولعل البرلمان البولندي سجل رقماً قياسياً بغياب الأحزاب اليسارية تماماً عن مقاعده الـ460. وبمقارنة التخبط والتشويش الذي يعتري استراتيجية تحالف «الحمر- الخضر» الحاكم في السويد حيال قضايا أمنية واقتصادية واجتماعية حساسة، مع النجاح المعتبر، بالأرقام، لليمين الممسك بالسلطة في الجارة الدنمارك في إدارة ملفات الرعاية الاجتماعية والبطالة والهجرة والاندماج والتهديدات الإرهابية، يسهل اكتشاف البون الشاسع بين الفكرين.

 

 

من الثابت أن المقاربات القديمة لليساريين التقليديين المتعلقة بضرورة تشكيل جبهة أوروبية موحدة وقوية وتمكّنهم في السابق من إعادة صياغة مفاهيم اجتماعية واقتصادية وسياسية على هذا الأساس لم تعد بالبريق نفسه، بخاصة مع عجزهم عن تطوير خطاباتهم واجترار الشعارات القديمة نفسها وغياب القادة الكارزميين والاكتفاء بالتجمعات الشوارعية المتفرقة بالمناسبات، وهو أمر لم يعد جذاباً للناخبين، تحديداً الشباب منهم. ويقيناً، أن الناخب الأوروبي لم يعد يرى في هذا اليسار محركاً للتغيير أو وعاءً يستوعب الحراك السياسي. بالنسبة إليه، هو اليوم ليس أكثر من تيارٍ معوّق بحاجة إلى «الموت الرحيم».