|
حتى الثانية عشرة والنصف من ظهيرة يوم السبت الموافق للحادي عشر من حزيران الجاري، كانت لدي ثلاثة أسباب وجيهة، يكفي كل واحد منها لـ»سحب الثقة» بمفتي المسلمين السنة في لبنان، الدكتور محمد رشيد قبّاني... اليوم، توفر لي سبب رابع، أطاح بما تبقى من حطام صورة الرجل ومكانته لا من وجهة نظري فحسب، بل ومن وجهة نظر كثرة كاثرة من الفلسطينيين، وربما اللبنانيين كذلك.
في لقاء جمع «فضيلة» المفتي على -وأشدد على أهمية القوسين هنا- بوفد فصائل منظمة التحرير في بيروت، لمعالجة «إشكال» حول قطعة أرض تقيم عليها عشرات العائلات الفلسطينية المنكوبة في مخيم صبرا... كال المفتي الهمام الشتائم للشعب الفلسطيني، بالجملة والمفرق، «و»من الزنّار وتحت، وبما لا يليق بـ»الدار» و»المقام»، بـ»المتحدث» و»المستمعين» على حد سواء... المفتي قال بالحرف: «لقد استضفناكم ولم نعد نريدكم ضيوفاً...»فلّو» أي «حلّو عنّا يا...»...»أنتم زبالة ولن تنتصر قضيتكم»...»أنا لست حكما – في الخلاف – أنا طرف وبيدي سيف»...»أنا ضدكم وسأجرّف الداعوق – حيث تقطن عشرات العائلات الفلسطينية.
ليختتم «فضيلته» حفلة الردح والشتائم، بمحاولة مسرحية ساقطة، للاتصال هاتفياّ بنبيه بري زعيم حركة أمل، خصمه من 8 آذار، لشكره على المذابح التي قارفتها الحركة في حربها على مخيمات بيروت في أواسط الثمانينيات، حين أجاز علماء الدين للفلسطينيين المحاصر في مخيماتهم أكل لحوم الكلاب والقطط للبقاء على قيد الحياة، وهي المحاولة التي كبحها معاونوه الذين أصابهم حرج شديد من تصرفات الرجل الهستيرية... ولا أدري حقيقةً، ماذا لم يبادر «الرجل الأجلُّ مكانة» في أوساط الطائفة الكريمة، للاتصال بشريكه في 14 آذار، «الحكيم» سمير جعجع، لشكره على مذابح أسبق، ولا تقل هولاً وفظاعة، قارفها بالاشتراك مع أريئيل شارون في مخيمي صبرا وشاتيلا بعيد الاجتياج الإسرائيلي للبنان (1982)، أو في مخيم تل الزعتر والكرنتينا والمسلخ إبّان حرب السنتين (1975-1976).
لقد استفقت صباح هذا اليوم، على تقرير نشرته صحيفة الأخبار اللبنانية، تضمن محضراً حرفياً للقاء المفتي بوفد منظمة التحرير... قلت أن الصحيفة المحسوبة على 8 آذار، ربما تكون تبالغ قليلاً وكثيراً من موقع الخصومة السياسية والنكايات اللبنانية المعروفة... لكنني حين اطلعت على المحضر بقلم الأخ سمير أبو عفش أمين سر فصائل منظمة التحرير في بيروت، تيقنت أن لا «قعر» للدرك الذي انزلق إليه «فضيلته».
قضية «أرض الدعوق» تتخلص في إقامة عشرات العائلات الفلسطينية على قطعة أرض ممنوحة لهم للاستخدام وليس للتملك، من قبل السيد عمر الداعوق في العام 1952، وقد سكنتها 470 عائلة قبل أن تدمر منازلهم في حرب 82 وحروب المخيمات، ومنذ ذلك التاريخ وعمليات إعادة الإعمار متواصلة ولم تكتمل بعد، وقد بنى الفلسطينيون منازل فوق منازلهم (توسعوا عامودياً) في ظل قيود السلطات اللبنانية على سكنهم، لكنهم لم يتوسعوا شبراً واحداً خارج قطعة الأرض المذكورة، ويبدو أن بعض النافذين في جميعة المقاصد ودار العجزة، أراد التوسع على حساب اللاجئين، حتى وإن أدى ذلك إلى تهجيرهم للمرة العاشرة، فكان ما كان من خلاف.
وبدل أن يصغي المفتي للرواية الفلسطينية، ويتصرف من موقع الحكم والأب الحاني للمسلمين السنة، فلسطينيين ولبنانيين، انفجر الرجل دفعة واحدة في وجه وفد الفصائل، وانهال عليهم شتماً وسباباً وتقريعاً وتحقيراً... آخذاً «في صدره» كما يقال، الشعب والقضية والمنظمة والكفاح و»الروابط الأخوية»... لقد أشهر سيفه الصدئ في وجه الفلسطينيين الذين كانوا سيوفه وسيوف أمثاله، عندما كان مقرراً لبيروت، سنة وشيعة، أن تخضع للمارونية السياسية بتياراتها المليشاوية الانعزالية الفاشية.
والغريب في الأمر أن المفتي الهمام، ما عاد يميز على ما يبدو بين حلفائها وأصدقائه... فالذين زاروه من وفود الفصائل، هم أقرب إلى تياره السياسي، ليسوا حماس ولا الجهاد الإسلامي ولا حلفاء حزب الله... هم سنة وليسوا شيعة (روافض) وفقا للخطاب التكفيري الذي سقط المفتي في بعض فصوله في معمعان الصراع ضد حزب الله، وفي سياق «حرب التجييش المذهبي» التي قادها نصرة لفريق من اللبنانيين ضد فريق آخر.
ألا بئس المرجعيات حين تفقد رشدها وتخرج عن طورها، وتستعير أكثر المفردات بذاءة وانحطاطاً في وصف الحركة الوطنية الفلسطينية... ألا بئس القامات والهامات التي يرفعها المال والإعلام إلى الأعلى، ولكنها مهما طالت واستطالت، لن تبلغ كعب شهيد فلسطيني سقط على أرض فلسطين أو في معارك الدفاع عن لبنان... لا أدري في أية مدرسة من مدارس «مكارم الأخلاق» و»الموعظة الحسنة» و»الكلمة الطيبة» تخرج «زلمتنا»... لا أدري إلى متى يراد للفلسطيني أن يظل «مطيّة» أو حيطة واطية» لكل من هبّ ودبّ... لا أدري إلى متى سيبقى اللاجئ الفلسطيني فشة خلق «للي بسوا واللي ما بسواش» وبالذات «للي ما بسواش»؟!.
أما الأسباب الثلاثة القديمة التي أدت إلى سقوط ورقة المفتي في ناظري وأنظار ملايين غيري مبكراً، فأولها: حروب التجييش المذهبي التي جعلت منه ناطقاً باسم الكهوف والمغائر، صوت «صفين» و»الجمل» و»الفتنة الكبرى... وثانيها: إخضاع الإفتاء علماً و»دارا» لحسابات صبيان المال والسياسة... وثالثها: لفساد الدار وصاحبها وفقا لما كشفه سليم الحص، أنظف السياسيين اللبنانيين كفاً ولساناً، من فضائح ومخازي، ومطالبته للمفتي بالتنحي لا حفظا لكرامته، التي فرّط بها هو بالذات... بل حفظ لكرامة المسلمين في لبنان، وصوناً للمكان الذي يشغله واللقب الذي يحمله... والكلام دائما لسليم الحص، فهل من اللائق بعد كل هذا وذاك وتلك، أن يظل الرجل يوماً واحداً في موقعه؟!.
|