فرنسا التي لا تغير وجهها

  لا تخلو الانتخابات الفرنسية من مظاهر الأزمة العامة التي أصابت الديموقراطية الغربية عموماً، فهذه الفكرة، أو هذه الآلية في تأمين تداول السلطة بعد قيام الدولة الأوروبية الحديثة، شاخت أحزابها، وفارق التجديد مفاصل أساسية من بنية حياتها السياسية الحديثة، وبدا، في كثير من الأحيان والمناسبات، أن شطراً كبيراً من الحراك المجتمعي بات محروماً من التعبير عن ذاته تعبيراً حقيقياً، ضمن سيرورة العملية الديموقراطية، ومحروماً في الوقت ذاته، مما يترتب على العملية السياسية من مردود اقتصادي مناسب، عندما يتم توزيع حصيلة الدخل الوطني العام.

  هذه النظرة إلى وضع الديموقراطية الغربية، التي لما تجدّد ذاتها تجديداً كافياً يتماشى مع التبدلات الكبرى التي شهدتها مجتمعاتها، تعيش نوعاً من المفارقة والتباعد بين مكوناتها وقيمها الأولى، وبين سلوكيات السلطات السياسية التي تحكم باسمها. الافتراق الجزئي هذا بين الحكام والمحكومين، لم يبلغ درجة الفصام الديموقراطي، إذ يناقض القول الفكرة، وتناقض الممارسة القول، وتناقض الحصيلة المجتمعية العامة الفكرة والقول والممارسة معاً. ولكي يظل القول «فرنسياً»، أي لكي يظل ميدان المعاينة الحالية ميدان الانتخابات الفرنسية، يمكن الاستخلاص، وبناء على النظرة إلى وضع الديموقراطية الغربية عموماً، أن التعبير الانتخابي الذي تشهده فرنسا اليوم، يعكس حال الأزمة الديموقراطية بالمعنى الذي أشير إليه، يتجلى ذلك في ارتباك المشهد الحزبي، وفي سيولة الانحيازات إلى الحدّ الذي تمحي فيه الفروقات بين يمين سياسي ويسار اجتماعي، مما يعطي الانطباع بأن الاختلاط الفكري بات سمة السياسة العامة، ومن هذا الاختلاط يأتي «الاعتباط» البرنامجي، بخاصة لدى اليسار الحزبي الذي يعلن نصوصاً ما قبل «عولمية»، ومن قبل اليمين الحزبي أيضاً، الذي يدغدغ مشاعر الأزمة لدى جمهور شعبي عريض، بتعبئة داخلية متوترة، تنتمي إلى خصوصيات «الوطنيات» المتفرقة، وليس إلى الأوروبية الجامعة، التي شكلت استجابة تقدمية لحركية الفضاء الأوروبي العام، وضرورة موضوعية من ضرورات دفع التضامن العالمي دفعاً تعاونياً سلمياً، يضع حداً لكل ماضي الدفع التناحري الذي كلف الأمم الأوروبية، ومعها العالم، حربين مدمرتين يكافح الجميع من أجل طي صفحات مآسيهما الكارثية.

 في مضمار «الأوروبية» العامة، أي مضمار إطلاق قيم ومفاهيم عامة تصلح لأن تشكل قاعدة لتفاهمات مشتركة، كان لفرنسا دور حاسم لعبته فوق خارطة المساحة الأوروبية، وكان للثورة الفرنسية عام 1789، الدور المتميز الأهم، بما قدمته من شعارات وقراءات، وبما أطلقته من ديناميات داخلية لم تلبث أن صارت عالمية، بمقدار ما يمكن الحديث عن عالمية في ذلك الزمن الثوري، الذي غيَّر وجه فرنسا، وكان له أثر وبصمات، على تبدلات أوروبية وغير أوروبية. في هذا المجال، وليس على سبيل الاستطراد العابر، كانت الثورة الفرنسية الثورة «العالمية» الأم، وأن ما تلاها من ثورات، يمينية أو يسارية، أخذت منها وتأثرت بها، وعليه، فإن حرب الاستقلال في الولايات المتحدة الأميركية، كانت «فرنسية» في بعض وجوهها، وإن ثورة أكتوبر 1917 في روسيا القيصرية، كانت فرنسية في بعض مضمراتها. إذن، لقد ارتبطت حركات شعبية كثيرة بحبل سرّة رفيع مع ثورة فرنسا السياسية والفكرية والاجتماعية، وكان الاتصال حميماً بين الرؤى الكبرى لهذه الثورات، هذه الرؤى الإنسانية الهامة التي ما زالت راهنة حتى اليوم، فكرياً وأخلاقياً، على رغم افتراق الحزبية السياسية الغربية افتراقاً واضحاً عن أساسياتها.

 وفق جدول الافتراق، يستطيع المراقب أن يلاحظ أن طرح الانفصال عن أوروبا يشكل ارتداداً جافاً عن «نضارة» وجه القيم الفرنسية الجميل، كذلك التحريض الانتخابي ضد الأجانب، أي الخطاب الذي يعيد تعيين الذات في انعزالها، ويرمي الآخر بالاتهام، فيسيء إلى قيمة «الإخاء والمساواة والعدالة»، أي إلى الصوت الفرنسي المدوي الذي جعل هذه القيمة أساساً متيناً لتواصل الداخل الوطني واندماجه، وتوخّى أن تكون جسر اتصال مع العالم، أي مع الآخر، ليكون يسيراً تعاونه فتعايشه فترابطه، فتحقيق سلامه وأمانه.

  حالياً، تقف فرنسا محمّلة بوزن تاريخها القيمي، ولا دليل منطقي يقول بأنها ستتخفِّف من أحماله. أبعد من ذلك، وعلى أي وجه جاءت حصيلة الانتخابات، فإن فرنسا ستظل حاملة لواء معنى أفكارها ذاته، وإذا أرغمتها بعض المحطات السياسية، مع بعض القوى الحزبية، على الاستماع إلى خطب بائدة، بالقياس إلى قيمها السائدة، فإن ذلك سيكون عَرَضياً، أو قناعاً مستعاراً موقتاً، تعود فرنسا لتطرحه سريعاً، لأن فرنسا فولتير وروسو ومونتسكيو... لا تغير وجهها... هو أمل كل «الإنسانيين» الذين يرون الحضارة خطاً بيانياً تصاعدياً، على رغم تعرجات مساره.