عن ردّ الملقي مرّة أخرى!


سبقني الزميل فهد الخيطان أمس إلى التعليق على حادثة مخاطبة أحد الأشخاص في إربد لرئيس الوزراء د. هاني الملقي (لدى خروجه من أحد المساجد في إربد) عن أحوال المواطنين والأردنيين الاقتصادية، وهي الحادثة التي تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي بصورة مكثفة، وربما أصبح هذا المقطع الأكثر انتشاراً ومصدراً لاهتمام الشارع والرأي العام.

الزميل الخيطان ذكّر بحوادث وقعت مع رئيس الوزراء السابق د.عبدالله النسور، وربما نضيف إليها قصصا قريبة أكثر وقعاً مع رؤساء وزراء آخرين، مثل د. معروف البخيت، وربما ما حصل مع الملقي يعتبر "اشتباكاً ناعماً".
اقتراح الخيطان، وأنا أؤيده بشدّة، كان بأن يقوم رئيس الوزراء بأخذ زمام المبادرة ومناقشة الرجل المعترض على ارتفاع الأسعار والأوضاع الاقتصادية، وطرحه لسؤال البدائل والخيارات الأخرى الممكنة، وتحويل ما حدث لإقناع الحضور، ومن ورائهم الجمهور العريض على مواقع التواصل الاجتماعي، بخطاب الحكومة ومرافعتها عن سياساتها.
لكن لو تجاوزنا الدقائق المعدودة، ونظرنا إلى المشهد بصورة أكثر شمولية، فإنّنا سنعود إلى أزمة أعمق من مجرّد "رد فعل آني" من رئيس الوزراء على شكوى المواطنين إلى فلسفة تعامل الحكومة مع الرأي العام والجمهور، ومدى تفكيرها في أهمية بناء رواية متماسكة لسياساتها ومواقفها، ومدى اكتراثها واهتمامها بردود فعل الشارع ومواقفه، وبصورة الرئيس والحكومة لدى الناس!
للأسف مع الربيع العربي سرت قناعة مغلوطة لدى السياسيين تستبطن انتقاداً ضمنياً لما يسمّى ببحث الحكومات عن "الشعبية" لدى الرأي العام، ما أخّر – وفقاً لهذه القناعة- قرارات جريئة وشجاعة، كان من المفترض اتخاذها مسبقاً، مثل تحرير أسعار المشتقات النفطية، ورفع الرسوم والضرائب، وغيرها من قرارات تمّ اتخاذها خلال الأعوام الأخيرة من رئيسي الوزراء الأخيرين النسور والملقي.
ووفقاً لهذه القناعة، أيضاً، تنامت حالة من "اللا مبالاة" من قبل المسؤولين برأي الشارع وبالمزاج الاجتماعي، وأصبحوا ينظرون إلى الأمر وكأنّ المعادلة الطبيعية هي العلاقة السلبة مع الشارع. لكن الأهمّ من هذا وذاك هو إهمال الرسالة السياسية المحبوكة والمصاغة بصورة متينة في مخاطبة الشارع والرأي العام حول برنامج أي حكومة وسياساتها ووعودها للناس والمواطنين، ولم يعد هنالك اكتراث حقيقي بإقناع الجمهور العريض من المواطنين أو دوام التواصل معهم.
في ظنّي أنّ هذه المعادلة خطيرة، على المدى البعيد، وتراكِم المشكلات وتجذّر الفجوة المتنامية أصلاً، بين الحكومات والمواطنين، وهو ما لمسناه في نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة، إذ وجدنا أرقاماً فلكية ليس في رضا المواطنين عن الحكومة بل العكس.
من الضروري، هنا، أن تفرّق الحكومات بين الشعبوية والشعبية، فالشعبية هي أساس مهم ومتين للاستقرار الاجتماعي والسياسي، وهي ليست مثل الشعبوية التي تعني البحث المخادع عن رضا الناس، بصور ملتوية، ولو على حساب المصلحة العامة، بينما الشعبية هي الاهتمام بالمواطنين والشعور بأنّ العلاقة معهم أحد أهم أركان قدرة الحكومة على صوغ السياسات واتخاذ القرارات.
من زاوية أخرى، فإنّ المصداقية عامل آخر مهم من عوامل قوة الدولة والحكومات ونجاحها في تجاوز المنعطفات والمنحدرات الخطيرة، والمصداقية تعني ثقة الناس بالحكومة وقناعتها بخطاب رئيسها، وقدرة الأخير على مخاطبة الشارع والاشتباك معه وقدرته على إقناع المواطنين بقراراته حتى لو كانت غير شعبوية، مثلما يقوم الطبيب بإقناع المريض بخيارات صعبة لمصلحته!
المطلوب اليوم من الرئيس والحكومة (طالما أنّنا نتحدث عن قاعدة 4×4، أي أربعة أعوام كعمر للحكومات) أن يبني رسالته السياسية والإعلامية ويعيد صوغ أجندة حكومته وعناوينها بصورة عميقة، وألا يستهين بمثل هذه المحادثة القصيرة لأنها تترك انطباعات كبيرة لدى الرأي العام.