أهل الفحيص ... شكراً

كما فعلها أهل القدس ذات يوم اغر من تاريخ المدينة الفلسطينية المقدسة، فعلها أهل الفحيص الأردنية المتربعة على كتف عمان الغالية، ففي عام 1956 احترم المقدسيون، وقدروا ابن الكرك المسيحي الشيوعي يعقوب زيادين ، فانتخبوه نائباً عنهم في مجلس النواب ، بعد أن تفوق على مرشحي عائلاتها عريقة النسب، وبالأمس القريب قدر أهل الفحيص ابن يطا الخليلية محمد خليل أبو صلاح ، عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الديمقراطي، فأجلوه وأقاموا له حفلاً تأبينياً يليق به كواحد من ابنائهم .

هكذا قدم الفلسطينيون من أهالي القدس نموذجاً في احترام المناضلين أياً كانت مساقط رؤوسهم، فكان انتخاب الدكتور يعقوب زيادين مثالاً حياً على صدق المواطنة، بعيداً عن المعايير السطحية الضيقة المتخلفة، وبالمثل تماماً قدم الأردنيون من أهل الفحيص نموذجاً راقياً في الاحترام المتبادل لمناضل عمل معهم وبين ظهرانيهم، تعاملوا معه وكأنه أحد رموزهم، فكرموه بما يستحق من التكريم ، على غرار ذلك التكريم الذي استحقه الطبيب يعقوب زيادين من أهل القدس، كأنه واحد من ابناء بيت المقدس .

ما سمعناه في الحفل التأبيني من ياسر عكروش وأيمن سماوي وكمال مضاعين، عن محمد خليل أبو صلاح ، تحملنا على الاعتزاز والفخر، لأن شعبنا يُثبت أن لديه من الاصالة والوعي بما لا يفرق بين فرد وأخر بسبب أصله ودينه ، فالمواطنة هي الأساس والشراكة هي القيمة والتعددية صفة أصيلة، نبحث عنها ونكرسها، كونها تُلبي التكامل بين البشر، الذين خلقوا مع مظاهر التنوع والتعددية والاختلاف، ولكنهم سواسية في ذات الوقت، لا يفرقهم سوى الإخلاص والتفاني للوطن والتعامل الندي مع الأخر .

أهل الفحيص يستحقون من الأردنيين وسام الكرامة والتفوق الأخلاقي والإنساني والحضاري لأنهم أجادوا الاختيار، فتعاملوا مع ذكرى الراحل محمد خليل كما سبق وتعاملوا مع الراحل الشهيد ناهض حتر، مما يؤكد أن ارادة شعبنا ستهزم أولئك العصاة من المتطرفين وضيقي الأفق ، الذين يفتقدون للرؤية و ينقصهم الانتماء، فشعب لديه الحس الوطني والرؤية العميقة، والإقرار بالتعددية واحترام الأخر، لا شك أنه سينتصر في نهاية المطاف.

لقد تعلمت من أهل الفحيص درساً، أنار لي المشهد الأردني على حقيقته، ووفر لي إجابة كنت أبحث عنها لسؤال كان يقلقني حول الطاقات الايجابية الكامنة في بلدنا، ومن ثمة لماذا لم تُفلح القوى السياسية الإسلامية المتطرفة في تحقيق برامجها، وعلى الأغلب تم هزيمتها كونها لم تجد لها حواضن اجتماعية تمنحها فرص العمل والتحرك وتحقيق النفوذ، رغم كل ادعاءاتها الدينية واستعدادها الجهادي !! .

لقد وصلت إلى استخلاص مفاده أن سبب عدم نجاح الخلايا الكامنة، التي فشلت في التسلل ليس فقط بفضل قوة الأجهزة الأمنية، بل أن سبباً أخر لا يقل أهمية عن يقظة الأجهزة، وهو تماسك الأردنيين ووحدتهم وعمق تفكيرهم ونضج انتمائهم، وها هي الفحيص بأهلها ونوابها وذواتها وشيوخها وطلائعها ورجال أعمالها وكنائسها ومؤسساتها الثقافية، وفي طليعتهم نادي الفحيص الثقافي ورئيسه ومجلس إدارته، يؤكدون على ذلك ، ويقدمون النموذج الحي الواقعي عن طيبة شعبنا وحضاريته وحفاظه على تعدديته .

قدمت عبلة أبو علبة أمين عام حزب الشعب الديمقراطي الأردني التكريم اللائق، باسم حزبها وباسم عائلة الفقيد، ومعها أمين عام الحزب الشيوعي الأردني فرج الطميزي، وهم يستحقون العرفان والتقدير على ما فعلوه وعلى ما قدموه لأسرة الفقيد، الذي لن يعوضهم أحد عن فقدانه، ولكن ما لمسوه عوضهم معنوياً عن فقدان عزيزهم، فتباهوا به لأنه أوصلهم لهذه المكانة من التكريم والتقدير من جيرانهم، حتى في غيابه، أما بيسان الوردة الدافئة ابنة الراحل فقد أتحفت الحضور فبكت وأبكت مع والدتها الصابرة المناضلة .

روح الفحيص وعقليتها وثقافتها وتحضرها وأناسها، رجالها ونساؤها ، شبابها وصباياها، رافعة لكل الأردنيين الحالمين بالنموذج الذي قدموه لمحمد خليل الفلسطيني المسلم اليساري ، ولذلك لهم الشكر الدائم والمستديم .