المناكفات السياسية في التعليم


كيف لنا أن نتجنب خطورة الزج بالمناكفات السياسية في التعليم؟ الواقع يشير إلى أن معظم المناكفات في عملية تطوير التعليم هي سياسية أيديولوجية، فهي ليست في حقيقتها اختلافا على منهاج أو على كتب مدرسية، بقدر ما هي اختلاف على منهج وفلسفة التعليم ذاتها، وعلى الهدف المبتغى من العملية التعليمية، ويمكن للمراقب أن يتبين فريقين رئيسين في هذا المجال.

الفريق الأول يرى أن العلم بالشريعة أهم من العلوم الدنيوية، وأن سنوات التعليم المدرسي والمناهج والنشاطات والكتب كلها، يجب أن تكون مسخّرة لخدمة تديّن الطالب، وبهذا أضحت الحداثة والتكنولوجيا، في وجدانهم، أموراً ثانوية في التعليم، وصارت الإنجليزية مثلاً "لغة الكفار" التي يجب تركها، علماً بأن التدين الذي يزينه هذا الفريق للطالب، إنما هو تدينٌ "حزبي" حركي، يقدم رؤيةً ذات فهمٍ سياسيٍ قوامه: إنكار الدولة الوطنية أو اعتبارها عتبة مؤقتة للوصول لدولة الأمة، وأيضاً إنكار المواطنة كرابطة دستورية في الدولة لحساب رابطة الدين التي تعلو على رابطة المواطنة.
كما ينظر هؤلاء للعملية التعليمية والمدارس الحكومية خاصةً، باعتبارها مسرحاً لتنظيم الطلاب وحشدهم، ويستغل معلموهم موقعهم؛ شكلاً وموضوعاً لتحشيدٍ يومي لفكر حزبي دعوي؛ ويدعون الطلاب علنا للانضمام إلى صفوفه.
كما أن مركز الأخلاق ومبدأها ومبتغاها عندهم، هو الفصل بين المرأة والرجل باعتبار أن اجتماعهما هو الرجس وبداية الرذيلة، ويتبع هذا منع أي نشاط ينمي الإحساس والشعور والعواطف التي هي "طريق تفسخ المجتمع" من وجهة نظرهم، ولهذا أغلقت غرف الموسيقى في مدارس الحكومة، ومنعت الرياضة في أغلب مدارس الفتيات الحكومية في الأردن.
أما الفريق الآخر، فهو في أغلبه فريق موتور، كل همه محاربة سياسة الفريق الأول، دون أن يمتلك فلسفة بديلة واضحة للتعليم، وهو فريق ظهر-بقصد أو بغير قصد - أنه ضد الدين والتدين وضد الإسلام تحديداً، هاجم مظاهر وتمظهرات التدين في المناهج، وصار حذف آيةٍ قرآنية عنده هدف تطوير التعليم ومبتغاه، محفزاً بذلك الفريق الأول لمقاومة عملية تطوير التعليم واعتبار تلك المقاومة جهاداً للحفاظ على الدين، ما عمق الخلاف وكرس الاصطفاف في مواجهة أي جهد لتطوير التعليم.
في ضوء ما تقدم وللخروج من هذه الحالة، أعتقد إننا نحتاج الى تطوير مفهوم وطني جامع لعناصر تطوير التعليم أساسه الاتفاق على ان التعليم هو ملف سيادي تمثله الدولة، والدولة فقط؛ تماماً كالأمن والصحة ونظام الحكم، وأن اهتمام جلالة الملك شخصياً به وتكليف جلالة الملكة بحمل ملف تطويره؛ هو ضمانٌ لحيادية ونزاهة وتوازن عملية تطوير التعليم، وعدم تسييسه لصالح أي أيديولوجيا مهما كانت، وبنفس الوقت عدم إقصاء أي فريق عن المشاركة فيه، بحيث يكون هدف العملية التعليمية -كما أشار جلالة الملك - هو تكوين مواطن، وتطوير المهارات والكفايات اللازمة لجميع جوانب حياته العملية والإنسانية والروحية والجسدية، مواطن غير منبتّ عن إرثه وتراثه العربي الإسلامي ولغته العربية، مسلح بأدوات العصر ومهارات التفكير الناقد الحر والمنفتح على العالم، فالمجتمعات المتحضرة تقوم على قيم الخير والجمال والعدل، وهي قيم متنوعة المصادر في الدين والثقافة والفنون والحضارة، وبنفس الوقت فإن الطالب لا يستطيع أن يكون عالمياً إن هو انبتّ عن هويته العربية الإسلامية الثقافية والدينية عموماً.
ولا يغيب عنا أن المعلم هو عماد العملية التعليمية وشرط نجاحها، وهو مناط الاستثمار الأول فيها باعتباره نموذجا حياتيا للنزاهة في التعليم والعمل، وبهذا فإنه يجب أن يكون مثالاً لحرية التفكير وموضوعية الطرح، ومحفزاً لتطوير مهارات التفكير الحر والناقد اللازم لتحضير الطالب لإنتاج المعرفة الإنسانية.
اليوم، نحتاج لنجاح عملية تطوير وإصلاح التعليم إلى ميثاق وطني للتعليم من خلال حوار وطني جامع كما دعا إليه جلالة الملك في ورقته النقاشية السابعة، حوار يهدف إلى تحديد رؤيتنا الوطنية للتعليم النابعة من الدستور والثقافة العربية والإسلامية والمسيحية والعالمية، نعم نحتاج لمثل هذا الميثاق قبل أن نبدأ، وإلا ستظل المناكفات السياسية عقبة في طريق تطوير التعليم، وسيظل أبناؤنا ومستقبل الأردن ضحايا لتلك المناكفات.