اسئلة من واقع مشتبك

أسئلة من واقع مشتبك

بلال حسن التل

مجمل ما يجري في الوطن العربي, يجعل الحليم حيرانا. مصداقاً لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, عن الفتن التي ستبتلى بها أمته, والتي تجعل الحليم حيرانا. من ذلك مثلا سر هذا الانحياز المبالغ فيه إلى ما سمي بالربيع العربي من قبل الإدارة الأمريكية, ومعها العواصم الغربية التي قادت حقبة الاستعمار البغيض ضد بلادنا وقبلها صدرت إلينا الحملات الصليبية. كما انها العواصم التي أذاقت أمتنا ومنطقتنا صنوف العذاب, ومارست ضدها كل أنواع العداء, ويكفي انها زرعت في قلب أمتنا ووطننا "إسرائيل" الغدة السرطانية التي أبقت أمتنا في حالة وهن وعدم استقرار حتى يوم الناس هذا.

الدول الغربية هذه, والتي مارست كل ألوان العنصرية والاضطهاد والعدوان, ضد أمتنا. وسعت إلى استلاب إرادة أبنائها وحريتهم, بعد أن استباحت أوطانهم, هل قررت فجأة الانضمام إلى خيار أبناء الأمة العربية في الحرية والديمقراطية والعدالة وحرية التعبير؟ وصارت تتغنى بالربيع العربي. (وهو بالمناسبة مصطلح أطلقته وزيرة الخارجية الأمريكية وصرنا نردده كالببغاء على جَرْي عادتنا في تلقف كل ما هو أفرنجي) فهل يعقل ان العواصم الغربية تريد لأبناء هذه الأمة الاستقلال والديمقراطية وحرية الاختيار؟ 

     وإذا كان الأمر كذلك, فلماذا تواصل هذه العواصم دعمها للعدوان الإسرائيلي المتغطرس على أبناء أمتنا وعلى إرادتهم؟ بل والصمت المطبق عندما تقدم إسرائيل, على قتل العشرات وجرح المئات من العرب أمثال الذين تظاهروا في الخامس من حزيران مطالبين بحق العودة وبوقف العدوان. حدث ذلك دون أن نسمع صوتا واحداً, يستنكر عدوان إسرائيل على العزل. الذين خرجوا للتعبير عن آرائهم في واحدة من أهم قضاياهم. ولم يُدعَ مجلس الأمن لمناقشة الاستخدام المفرط للقوة من قبل إسرائيل ضد المدنيين العزل. على غرار ما تفعل واشنطن والدائرون في فلكها, عندما تحاول قوات الأمن أو الجيش أن تعيد الأمن إلى مدينة من مدن هذا القطر العربي أو ذاك. مع تحفظنا من حيث المبدأ على استخدام القوة ضد التظاهر السلمي. وان كان المتظاهرون قد خرجوا في أكثر من بلد عربي عن الطابع السلمي للتظاهر والتعبير عن الرأي.

إن السؤال الأول الذي يطرحه الواقع العربي المشتبك, انه إذا كان الغرب قد قرر الانحياز إلى حق الشعوب, بالحرية والديمقراطية. فلماذا ينقلب هذا الانحياز عندما يتعلق الأمر بحق أبناء فلسطين في العودة إلى أرضهم ووطنهم؟ بل لماذا تنقلب العواصم الغربية على خيارات الشعوب عبر صناديق الاقتراع, عندما لا تتوافق هذه الخيارات مع المخططات والأطماع الغربية؟ حدث هذا في الجزائر مطلع تسعينيات القرن الماضي وحدث في فلسطين قبل سنوات. وتكرر ذلك في أكثر من منطقة في عالمنا الإسلامي.

أما السؤال الثاني الذي يبنى على السؤال الأول, فهو ما هو حق التعبير المسموح به لأبناء المنطقة, وما هو الإصلاح الذي تريده واشنطن والسائرون في فلكها في منطقتنا؟ إذا كان أمن إسرائيل أولوية لا يجوز الاقتراب منها. وإذا كان حق العودة غير قابل للنقاش. وإذا كانت القدس خارج إطار الحديث والمفاوضات. وإذا كان الحديث عن وحدة الأمة من المحرمات. وإذا كان امتلاك الأمة للقدرة العلمية والعسكرية والاقتصادية غير جائز. وإذا كانت الدعوة للإسلام إرهاباً. وإذا كانت الزكاة تمويلاً للإرهاب. وقبل ذلك كله إذا كان من غير الجائز ان تفرز صناديق الاقتراع أشخاصاً لا ترضى عنهم العواصم الغربية.

السؤال الثالث الذي تطرحه الممارسات الغربية إزاء ما يسمى "بالربيع العربي" هو هل يجوز للعواصم الغربية ان تختزل دولة كاملة في رجل واحد ثم تدمر هذه الدولة, وتقتل شعبها وتستبيح أرضه بحجة تخليصه من ذلك الرجل؟ حدث هذا في العراق الذي اختزل في صدام حسين, فدمر العراق واستبيح بحجة التخلص من صدام حسين. واستمرار الأمر على ما هو عليه من تدمير وقتل واستباحة بعد إقصاء صدام ثم موته. وما زال العراق محتلاً. وما زال شعبه يعاني. وما زالت سيادته مستباحة. وأكثر من ذلك فقد قسم العراق فعلياً.

وما حدث في العراق يحدث الآن في ليبيا, فبحجة تخليص الشعب الليبي من العقيد معمر القذافي, يجري تدمير ليبيا وذبح شعبها, عبر آلاف الطلعات الجوية لطائرات الناتو التي تعب طياروها من كثرة ضربهم لليبيين. في الوقت الذي تجري فيه وراء الكواليس المفاوضات على توزيع ثروات ليبيا, بين الدول الغربية, التي تسعى إلى تقسيم ليبيا بحجة تخليصها من العقيد. وهو الأمر الذي يلوح في سوريا التي يركز الإعلام المعادي عليها هذه الأيام. ويسعى إلى اختزالها في شخص الرئيس الأسد, كذريعة للتصعيد ضدها, تمهيدا للتدخل فيها على غرار ما حدث في العراق وليبيا لا سمح الله, بكل ما تمثله سوريا في ضمير الأمة ووجدانها. وهما الضمير والوجدان اللذين يؤمنان تمام الإيمان بأن هذا التحريض ضد سوريا, لا يستهدف إصلاحا بمقدار ما يستهدف كسر موقف وإرادة سياسية تمثلهما سوريا. فقد صارت المطالب الغربية من سوريا معروفة للقاصي والداني والمتمثلة بفك الارتباط مع إيران, والتخلي عن دعم المقاومة واحتضانها, والبدء بالمفاوضات مع تل أبيب وفق الشروط الإسرائيلية والانضمام إلى محور الاعتدال العربي. الذي أصبح نسيا منسيا إلا في أذهان حفنة من السياسيين.

غير ان السؤال الأهم الذي تطرحه التطورات في الوطن العربي هو هل يعقل هذا الصمت العربي خاصة على الصعيد الشعبي على كل هذه الهجمة الأطلسية ضد أمتنا. وعلى هذا التدخل الوقح في كل شؤوننا الداخلية, حتى وصل الأمر إلى ان شرعية واستمرار وجود هذا النظام أو ذاك مرتبطة بمدى قبوله أو رفضه من العواصم الغربية. بل أكثر من ذلك فقد صارت العواصم الغربية هي التي ترسم خارطة لتحركات الجماهير العربية وسقف مطالب هذه الجماهير. في ظل غياب شبه كامل للنخب العربية على الصعد السياسية والاجتماعية والثقافية. فلم تصدر عن هذه النخبة حتى هذه اللحظة أي مبادرة أو حركة لإنقاذ الأمة مما هي فيه. فهل وصل الغزو الثقافي مداه في وطننا حتى سلمنا رقابنا بعد عقولنا لاعدائنا؟!

كثيرة هي الأسئلة التي يثيرها الواقع المشتبك الذي تعيشه الأمة. والذي يجعل الحليم حيرانا. غير ان السؤال الأهم هو كيف نخرج من هذا الواقع؟ وكيف نحدث إصلاحا حقيقيا وكيف نمتلك إرادتنا ومن ثم حريتنا؟ والجواب عندي انه لا بد أولاً من عملية بناء لوعي الأمة من خلال نهضة فكرية شاملة على غرار تلك النهضة التي مهدت لتحرير القدس على أيدي صلاح الدين. وهذا يتطلب بناء جبهة مقاومة شعبية إسلامية. تعتمد أولاً على بناء وعي الأمة على أساس ثقافة المقاومة, بهدف تحرير عقل الأمة, التي أُخذت من عقول أبنائها, قبل أن تؤخذ بسيوف أعدائها. عندها فقط يصير أمر إسرائيل أهون من بيت العنكبوت, بعد أن يكون الإصلاح قد تم على أيدي علماء الأمة ومفكريها لا من خلال توجيهات ساركوزي واوباما.