ربيع العملية التعليمية

على أهمية الاوراق النقاشية الست السابقة، وما جاءت به من رؤى وأفكار إصلاحية شاملة لعدد من نواحي الحياة الوطنية، فقد تكون الورقة الملكية السابعة، الخاصة بتجويد العملية التعليمية، والارتقاء بها الى مصاف الثورة العالمية الجارية على هذا الصعيد، أثمن هذه الاوراق واكثرها مخاطبة لجوهر اهتمام وهموم الآباء والامهات، ومختلف اطراف وحلقات هذه العملية، التي آن لها ان تقف على رأس جدول اعمال الدولة والمجتمع في هذه الآونة.
وبالقراءة المتمعنة لما انطوت عليه الورقة الجديدة، وما طرحته من تجديد مرتبط ببناء القدرات والموارد البشرية، وما لامسته من طموحات تشارف اعلى ما يتطلع اليه التربويون الاصلاحيون الشجعان، فإن المرء يكاد لا يجد لديه ما يضيفه الى هذه الرؤية المدركة لماهية التعليم الحديث، والكاشفة في الوقت ذاته لمخاطر المراوحة في ذات المكان، وفداحة كلفة التخلف عن الركب الحضاري، والبقاء أسرى انماط ومفاهيم وفلسفة تعليمية أكل عليها الدهر وشرب كثيراً.
وأحسب ان وضع الملك عبدالله الثاني لكامل ثقله وراء المحاولات الصبورة، الجارية بتعثر شديد، لإطلاق التعليم من موروثاته المتقادمة، ومثله البعيدة عن روح عصر الإبداع والمعرفة، سوف يشكل نقطة تحول طال انتظارها للبدء في تكوين قوة دفع جديدة، والشروع من ثمة في ورشة فكرية منهجية، تردّ الاعتبار لتربويين رياديين، ومسؤولين متنورين، تم جبههم وكبح خطواتهم الأولى، بفيض من الاعمال الترهيبية، بعضها صدر عن جهاز التعليم ذاته، وبعضها الآخر عن منابر يصح وصفها بالرجعية، بلغت حد تحريض الطلبة على حرق كتبهم في المدارس، وامام الكاميرات.
ولعل بيت القصيد في الورقة النقاشية السابعة، قول الملك بوضوح لا لبس فيه؛ ما من امة تنهض بغير التعليم، وقد بات من البدهيات ان لا شيء يعدل التعليم في مسيرة بناء الدول وتغيير وجه العالم للأجمل والأفضل والأكمل، لا سيما في مرحلة تتسابق فيها الامم في اقتصاد المعرفة، والاستثمار في الطاقة البشرية. وها هي صفحات التاريخ وتجارب الامم تثبت ان لا محيد عن التغيير، ولا مصير الا اليه، فالتغيير يفرض نفسه ويثبت ذاته، ويمضي غير عابئ بمن يخشونه.
من المفهوم على نطاق واسع، ان اصلاح العملية التعليمية ليس امراً سهلاً، ولا يحدث بين عشية وضحاها، سواء أكان ذلك لأسباب موضوعية، او كان بفعل عوامل ذاتية، بدت في الآونة الاخيرة كالعقدة في المنشار، ان لم نقل انها اكثر العقبات استعصاءً، واشدها اعاقة على طريق لا تخلو بطبيعة الامر من تحديات حقيقية، بما في ذلك تحدي تمويل عملية تطوير متدرجة وشاملة، في مثل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة.
ولا شك في ان الاستجابة لمجموع المبادئ والقيم والاهداف التي اشتملت عليها هذه الورقة، من شأنها إحداث ثورة بيضاء حقيقية، قد تمتد تداعياتها الإيجابية، وتفاعلاتها المنتظرة، الى نطاق اوسع بكثير من إطار العملية التربوية، وذلك لما ستطلقه من حوارات صحية، وما تستدعيه من قرارات جريئة، وما تجترحه من أدوات وأساليب ابتكارية، للتساوق مع مضمون هذه الورقة، التي تلح على ضرورة الاعتراف بالقصورات، كمقدمة لوضع الحلول الناجحة، وفق خريطة طريق معلومة.
وبالفعل لقد وضعت هذه الورقة يدها على موضع الجرح الذي يشكو منه الجميع، ويتعايشون معه بقدرية مفرطة، ونعني بذلك الخشية من التطوير في حد ذاته، والتردد الطويل أمام استحقاق مواكبة التطور في العلم الحديث، ناهيك عن اخضاع العملية التعليمية الى المزايدات السياسية، وجعلها رهينة لمصالح ضيقة، واعتبارات صرف ربحية، وغير ذلك من موروثات مفخخة، بعضها يدعو الى الكراهية والفرقة والنعرات المقيتة، فيما بعضها الآخر يحمل على الاعتزاز به، والبناء عليه.
هذا هو التحدي الاكثر الحاحاً، والأشد بعثاً للطاقات والإرادات والخيالات معاً، أن يدشن الاردن تجربة ملهمة للعالم العربي، بأن يقود مسيرة تحديث التعليم، وان يكون رائد التحول الى مجتمع المعرفة، وذلك عندما نرى المدارس والجامعات لدينا وقد اصبحت مصانع للعقول المفكرة، والايدي الماهرة، والفعاليات المنتجة، الامر الذي ينبغي معه الاعتماد على منظومة تعليم حديثة، ومناهج دراسية تقوم على التفكير النقدي، وعلى أدب الاختلاف، وثقافة التنوع والحوار، وتنمية ملكية التحليل، وذلك كله بمعلمين مؤهلين لقيادة هذه المرحلة التأسيسية.