يطوّقني الحنين الى المكان و الزمان

هذه الوجوه و العقول غريبة عليّ ملامحها و معطياتها و ملابس أجسامها، حيث لم أعهدها من قبل يا ولدي، و هي ليست نفسها التي كنت أراها بعينيّ و تراني، و هي مطوية برتابة الآن في عقلي و قلبي. أما الذين أعرفهم جيدا و مرّوا من هنا قبل قليل، فقد تغيّرت و تبدّلت ملامحهم، و وهنت أعمدتهم الفقرية التي تحمل لحمهم و شحمهم لكن بدرجات متفاوتة، و معظم محتويات عقولهم يماثل ما في عقلي من مفاهيم و قيم و ذكريات أكثر ما يميزها الأصالة و الجودة يا ولدي.

كانت أعمار بعض الذين سلُموا علينا، منذ أربعة عقود، تتهيأ لدخول معترك الحياة، و أخرى دخلتها و قد قضت بضع سنين عندما تعرفت عليهم، و أما الذين كانوا بمثل عمري و توثّبوا معي، فمعظهم قد رحل بقدميه عن المكان الى أماكن و محطات و بلدان أخرى بعيدة، و لم يتركوا عناوينهم عند أحد مثلما فعلت أنا عندما غادرت هذا المكان قبل أربعة عقود.

ترتفع و تنخفض الآن أصوات لم أسمعها من قبل. تبدّلت كلمات و عبارات التواصل و المناداة بين الناس هنا بفعل سلوك الزمن الذي لم يشكر أحدا أو يعتذر لأحد أو لأي شيئ، و هي لا تروق لي كما تلاحظ من حركة الشفتين و الحاجبين لديّ.

 

لقد إختفت الأزقة و الطرقات و معظم البيوت التي حدثتك عنها مثلما إختفت معاني و قيم و لذّة جلّ الأشياء و الأحداث بما فيها قطع النقود المعدنية، و كان بودي أن تتحسس وسائل إدراكك الحسي الأماكن التي قضى والدك بين جنباتها و على نسيجها أيام طفولته وصباه.

من المؤلم بالنسبة اليّ أنه لم يتخلف سوى هذه الدخلة الضيقة في هذه الحارة بعد أكثر من خمسة عقود. الحارة لم تعد على حالها مثلما بقي خط سكة الحديد.
من الممكن أن صعوبة حصر الإرث قد تمكن من عدم التغيير، فتيتمت الدخلة التي أصبحت باهتة شاحبة و متقدمة في السن كثيرا.

الأزقة و الطرقات و البيوت التي إنهزمت بفعل ضعفها و عدم أناقتها و تغوّل البنيان ، وهذه الدخلة (اليتيمة الغريبة الآن) إحتفظت بوقع و بصمات أقدامنا و أحذيتنا و لمسات أطراف أصابعنا و شقاوتنا.

أما بيت القابلة التقليدية أم محمد اليافاوية، ودكان أبو رفيق الطاعن في السن و دكان منافسه أبو بسام صاحب النظارة السميكة جدا و ملحمة الكريم أبو ضيف الله و مخبز الرجل النكد صلاح، و معصرة السمسم، و روضة الأستاذ المتجهم دائما أستاذي عبد العزيز، و مدرسة البنين، و مدرسة البنات، و بيتنا المكوّن من غرفة واحدة الذي كان، و الجيران و الأسماء فقد إعتزلت الأدوار التي منحها إياها الآدميون الذين كانوا الى غير رجعة أي الى الأبد.

من هنا، كان بائع الحليب البقري صاحب الصوت الضعيف الذي لا يعرف الحساب يمر بعد صلاة الفجر مباشرة، و يطرق الأبواب ليأخذ قلة من الناس منه الكميات المتفق عليها. إقتصر إستهلاك الحليب في تلك الفترة على كبار السن و المرضى و الحوامل و المرضعات الواهنات لأن ثمنه مرتفع. و في أسفل الجبل كان بائع الماء يجهز حاجة جميع بيوت الجبل من الماء (تنكة أو أكثر حسب معدل الإستهلاك المنتظم و الرشيد للأسر).

أسفل هذه العمارة كان مطعم أبو الراغب الذي فقد عينه اليسرى و هو صغير بسبب جهل أمه لا حسد الناس، و بالقرب منه المخبز ، و على الناصية القريبة من هنا كانت بقالة ناصر الذي قضى و هو في ريعان شبابه بسبب مرض السرطان.

 

فترة عصر صيف تلك الأيام الخوالي كانت تعني تواجد الباعة المتجولون.

يحضر بائع الحلاوة بالسميد الملونة، و بائع البوظة، و بائع العوامة، و بائع التفاح الشامي الصغير الحجم المغموس بالسكر المعقود المضاف إليه اللون الأحمر القاني، و بائع القماش على حماره القبرصي الأبيض ليُسوّق بضاعته   المزركشة الموضوعة في صندوقين خشبيين كبيرين بين الحارات، و تنتظره أحلام فتيات و نساء الحي و هو ينتظر رؤية العرائس و الجميلات منهن و سماع أحاديثهن المسلية و لربما الساحرة.

الساحة الصغيرة المستورة بسور غير مرتفع، و التي كانت أمام بيتنا الشاهدة على شقاوتنا، و على مشينا على رؤوس أصابعنا في الحالات الحرجة، المتفتحة مثل زهرة تحت سماء زرقاء صافية مثل أنفسنا، و الموقنة خلافاتنا حول إسم شقيقنا أو شقيقتنا المنتظر قدومه/قدومها كانت تنتظرنا كل يوم و هي في منتهى الإشتياق إلينا، المؤرخة لأحداث تجاوزت خمسين سنة وهنت و إرتحلت ثم إختفت.

من مكاني هذا ، علينا الآن المسير لمدة لن تتجاوز الربع ساعة لنقرأ الفاتحة على أرواح من قضوا من سكان حارتي. لقد أعلمتك مسبقا بأن كل شيئ كان في الحارة غير بعيد.


لقد ضمّ الثرى برفق أجساد معظم الذين عرفتهم، و تفاوتت أعمارهم عند رحيلهم، فمنهم من قضى وهو صبي بسبب الحصبة أو سوء التغذية، و منهم من قضى و هو على عتبة الشباب بمرض غامض أو حادث دهس أو خلافه، و قليل منهم تجاوز مرحلة الشباب ثم قضى نتيجة ذبحة صدرية أو مرض عضال، فاختفت أصواتهم، و تحلّلت ذاكرة عقولهم ضمن ما قد تحلّل، أعني أجساد الأولاد الذين لهونا معهم و كانت لهم آمال و أحلام واسعة، تعتبر الآن ضيقة، لأنها مشتقة من البركة التي كانت.

كان حلمنا بأن نصبح مدرسين في مدرستنا لنحظى بإحترام و مكانة و مهابة و مقدرة مالية، و ليأتي للسلام علينا كل سكان الحارة و خصوصا المختار !