«الفن والتصور المادي للتاريخ» لبليخانوف: على الضد من النقد الجامد

من المعروف أن معظم المناضلين الذين تولوا قيادة الثورة الروسية في العام 1917 وما قبله، ومن ثم تأسيس الاتحاد السوفياتي، كانوا من المثقفين أكثر كثيراً مما كانوا عمالاً أو فلاحين، كما تقول الحكاية. فمن لينين الى بوخارين ومن تروتسكي الى عشرات غيرهم وصولاً الى لوناتشارسكي وحتى ستالين، حدث لهم أن جربوا حظوظهم في الكتابة بشكل أو آخر. بل أن لينين نفسه خلّف عشرات الكتب التي لم يتوقف السوفيات عن نشرها وتوزيعها بملايين النسخ. والى هذا يجب القول إنهم كتبوا بخاصة في الفنون والآداب وإن بأشكال وأساليب غالباً ما شوّهت النظرة الى هذه النشاطات الإبداعية. لكن الحقيقة أن الوحيد من بين القيادات البولشفية العليا الذي كان مثقفاً حقيقياً ودارساً حقيقياً للإبداع، لم يكن سوى جورج بليخانوف، الذي وقف منذ البداية ضد النظرة الميكانيكية الى الإبداع والمبدعين و... دفع الثمن - كما سنرى بعد سطور - هو الذي لم يطل مكثه في الصفوف القيادية، إذ سرعان ما استُبعد ليس مغضوباً عليه تماماً، إنما غير مقبول بأفكاره التي رآها القادة المنتصرون في تشرين الأول (أكتوبر) 1917 هرطوقية أكثر مما ينبغي.

 

 

> ومع هذا، بعد رحيل بليخانوف المبكر خلال سنوات قليلة من استبعاده، أفاقت السلطات على «ضرورة» عدم إهمال أفكاره وكتاباته حتى ولو كانت متعارضة مع الخط العام، فطبعتها ونشرتها ولكن دائماً مع توضيحات واعتراضات وتأويلات كانت تصل أحياناً الى حد تفريغها من مضمونها. مهما يكن، في نهاية الأمر بقيت من نتاجات بليخانوف الفكرية نصوص كثيرة، تمكنت السلطات أحياناً من استخدامها تدليلاً على «تسامحها» و «ليبراليتها» في أحيان كثيرة. وهذا المتن المتبقي يشهد على اتساع ثقافة الرجل واستيعابه، في آن معاً للدروس الماركسية الحقيقية، التي كانت غالباً غير متفقة مع الخط الرسمي، وللخط الرسمي في تأرجحه بين الليونة والتشدد وفق الظروف والمرحلة. ولقد جُمعت في واحد من أشهر كتب بليخانوف في مجال الدراسات الأدبية، مجموعة كتابات له تحت عنوان «الفن والتصور المادي للتاريخ» اشتهر في السبعينات، وحتى في العربية حيث ترجمه الراحل جورج طرابيشي، ليعتبر ضمنياً واحداً من «الاحتجاجات» المبكرة على الجمودية الستالينية والنزعة الميكانيكية البائسة التي اتسم بها الموقف الرسمي الشيوعي من شتى أنواع الإبداعات.

 

 

> يحتوي الكتاب على دراسات مسهبة حول غوركي وإبسن كما حول تشيرنيشفسكي وبيلنسكي، كما حول «الأدب المسرحي وفن الرسم في فرنسا في القرن الثامن عشر من وجهة النظر السوسيولوجية» كتاب «تاريخ الأدب الفرنسي» للانسون، إضافة الى دراسات أخرى مشابهة. وفي كل هذه الدراسات يجهد بليخانوف، بنزاهة العالم أكثر كثيراً مما بجمودية الأيديولوجي لإيجاد خط فكري وسط بين النظرات المختلفة الى القضية الفنية. وذلك انطلاقاً من يافطة «مطمئنة» تصلح لزمانه لكنها تصلح بالتأكيد لزماننا أيضاً: «الفن للفن صار الفن للمال. فهل يمكن أن يأخذنا عجب إذا ما صار الفن يباع ويشرى في عصر يمكن فيه بيع وشراء كل شيء؟». وفي مقابل هذا الهجوم على تسليع الفن، لا يتوقف بليخانوف عن التصدي للفكرة المنادية بطمس الفرد أمام احتياجات الجماعة، ونراه مثلاً حتى حين يقول: «لو ان أسباباً ميكانيكية أو فيزيولوجية لا تمتّ بصلة لتطور إيطاليا الاجتماعي والسياسي والفكري قتلت في المهد رافائيل وميكلآنجلو وليوناردو دافنشي، لكان كمال الفن الإيطالي قد لحقه ضرر ما لكن اتجاهه العام في عصر النهضة كان بقي كما هو. فهذا الاتجاه لم يخلقه هؤلاء لكنهم كانوا خير ممثليه. ان مدرسة بأسرها تظهر عادة من حول عبقري إذ إن موت هؤلاء كان سيترك في الفن الإيطالي ثغرة...».

 

 

> ولنعد هنا الى بليخانوف نفسه وما حدث يوم رحيله: «قبل خمسة عشر يوماً، كان مراسلنا قد شهد مسيرة طافت شوارع بيتروغراد، مسيرة تكريم للزعيم الاشتراكي الكبير بليخانوف، الذي مات كما عاش خلال الشهور الأخيرة من حياته، مهملاً من البروليتاريا التي لم يرغب أبداً في مسايرة نزواتها، ومهملاً من جانب مجلس السوفيات الأعلى الذي رفض أعضاؤه المشاركة في جنازة الراحل. لكن بليخانوف أحيط الى مثواه الأخير بأسف وحزن نخبة المثقفين، تلك الطبقة التي تحمل اسم الانتلجانسيا، والمؤلفة من مثقفين ومن بروليتاريا متنورة. اما الجنازة فلقد نظمت من جانب لجنة عمال المصانع التي كانت تخوض في ذلك الحين صراعاً عنيفاً ضد المتشددين من أنصار الحلول القصوى: كانت جمهرة العمال الفقيرة غائبة عن الاحتفال، وكذلك غاب ممثلو اللجان المركزية للسوفياتات. كان بليخانوف زعيم تيار في الماركسية الأورثوذكسية وكذلك كان منظرها الكبير الواعي: عاش منفياً بعيداً عن روسيا طوال أربعين عاماً، وهو حين عاد العام الفائت الى وطنه، شعر بأن الروح الروسية قد أفاقت من سباتها. وهذا ما جعله يعلن خصومته للينين، وتأييده لمواصلة النضال ضد النزعة العسكرية الألمانية. لكنه، بسبب موقفه الشجاع هذا، فقد شعبيته».

 

 

> على هذه الشاكلة وصفت الصحافة الغربية رحيل بليخانوف في 1918، حيث إن أخبار سجالاته مع لينين والأخطار التي كان يتعرض لها نتيجة ذلك كانت تشكل حيزاً مهماً من اهتمامها. ومع هذا، ما ان مضت سنوات على موته حتى عادت أجهزة الدعاية الحزبية البولشفية وضمته الى صفوف أصدقاء لينين ضاربة صفحاً عن كل ضروب المعارضة والتمرد التي أبداها، كما اعتبر واحداً من كبار الروس الذين نظّروا للفن الثوري، ولعلاقة المثقف بالسلطة.

 

 

> والحقيقة ان بليخانوف لم يمت في روسيا بل في فنلندا التي كان قد لجأ اليها اثر اندلاع خلافه الحاد مع لينين، غير انه في منفاه رفض رفضاً قاطعاً أن يخوض لعبة العمل النظري أو الدعائي ضد البولشفية، ولعل هذا الواقع هو الذي شجع أنصاره على تكريمه حين رحيله، وإقامة جنازة حافلة له، بعد أن نقل جثمانه ليدفن في بيتروغراد، كما شجع السلطات السوفياتية على استعادته فيما بعد واعتباره من منظري الثورة الكبار.

 

 

> بليخانوف الذي رحل في العام 1918، كان قد ولد قبل ذلك بـ62 سنة في قرية غودلوفكا، وبدأ منذ 1867 نضاله في صفوف حركة «الأرض والحرية» الثورية، مما أجبره على ترك دراسته وخوض العمل السري هرباً من عيون الشرطة التي راحت تلاحقه. ومع هذا كان بليخانوف معادياً لأعمال الإرهاب يؤمن بعمل التوعية السياسي مما جعله يحدث أكبر انشقاق في تاريخ حركة «الأرض والحرية». وفي 1880 هاجر الى جنيف حيث أقام العديد من السنوات أضحى خلالها المنظر الأول للفكر الماركسي الروسي وكتب عدداً كبيراً من المقالات والدراسات التي عالجت الفلسفة الماركسية ومن أشهرها كتابه «دراسات في تاريخ المادية» الذي ترجم الى عشرات اللغات في مراحل لاحقة.

 

 

> منذ 1903 وقف بليخانوف ضد تطرف لينين وأعلن انه لا يؤمن الا بالحلول السلمية، في مواجهة الخط البولشفي الذي كان يدعو الى ثورة العنف وإشعال الحرب الأهلية. غير ان إسهام بليخانوف الأساسي كان في مجال نظريات الفن، حيث نراه، ومنذ وقت باكر يثور ضد المفاهيم اللينينية في مجال فلسفة الفن لا سيما في كتابه «الفن والحياة الاجتماعية» الذي اعتبر دائماً الأساس الذي بنى عليه كبار مؤرخي الفن الاشتراكيين في القرن العشرين أعمالهم. إضافة الى عمله السياسي والفلسفي الثوري عرف جورج بليخانوف كناقد أدبي، ولقد اشتهرت في ذلك الحين دراساته الثاقبة عن أدباء وفنانين من طراز تشرنيفسكي وبيلنسكي وغوركي، وكذلك اشتهر كتابه عن «كارل ماركس وتولستوي».

 

 

> لكن الغريب في أمر بليخانوف هو أن اندلاع الحرب العالمية الأولى قد أيقظ لديه نزعة وطنية روسية دفعته الى تأييد خوض روسيا الحرب ووضعته على مجابهة عنيفة مع الأوساط الماركسية التي كانت ترى في تلك الحرب حرباً امبريالية لا تنفع البروليتاريا الروسية أو العالمية في شيء. وهنا كانت القطيعة الكبرى مع لينين وتروتسكي، غير ان تلك القطيعة لم تمنعه، حين اندلعت الثورة في شباط (فبراير) 1917، من المشاركة فيها، والقيام بدور أساسي في تركيز نوع جديد من الحكم. إلا أن تأييده ثورة شباط لم ينسحب على ثورة اكتوبر، اذ نراه ما ان اندلعت حتى عارضها وعارض الصلح مع الألمان وهاجر الى فنلندا حيث مات في الوقت الذي كان فيه لينين يحقق انتصاراته الكبرى.