عندما بكــــــى أبــــــي
عندما بكــــــى أبــــــي
ألا ليت الشباب يوماً ليخبره بما فعل به المشيب. منذ مئات السنين وقبل نزول الماء على القارات وانشطار اليابسة وتفرقها عن بعضها البعض أتيت إلى الدنيا طفل معذب. قبل كل هذا كنت أنا الحيوان المنوي الذي أطاح بإخوته البالغ عددهم ملايين الجيوش الفتّاكة،،، وانتصرت عليهم جميعا وألحقت بهم الضرر الجسيم. لألتحم مع البويضة بمعركة قناة (فالوب) الأنثوية. منذ أكثر من ثمانية وسبعون عاماً كنت أنا ذلك الرجل الفتي الجبّار القاهر لكل الصعاب لم أدرك بأنه سيأتي يوماً وأمسي به كهلاً متهالكاً لا أسمع جيداً ولا أرى بوضوح وأبنائي حولي وأحفادي يكنون لي كل محبة واحترام.وكنت أعلم أبنائي الأحباء بأنكم ستروني عجوزاً غير منطقي أحياناً في أغلب تصرفاتي عصبي المزاج انطوائي بعض الشيء من فضلكم أبنائي فقط أعطوني بعض الوقت وبعض الصبر من فضلكم. كان أحفادي يحبون تلك القصص القديمة ويعتبرونها نسج من الخيال كيف أصبحنا وكيف أمسينا كنا جيلاً لا يتكرر مثله مرتين نوصل الليل بالنهار وأعمالنا مرهقة وتكاد تكون مميتة فكانت الناس تعيش على البساطة بكل شيء سواء بطعامها أو شرابها وملبسها فكانت الكهرباء غير موجودة وأصابع الشمع تملأ المكان والفانوس بالزيت هو السحر بعينه. كانت الناس أكثر طيبة وأكثر مخافة من الله لا يوجد شيء يلهيهم عن ذكر الله ينامون باكراً وينهضون عند صلاة الفجر ويتوجهون لكرومهم المعطاءة ويأتيهم الطعام على سدر من القش حينها،،، الماء نظيف والهواء عليل ونقي وسنابل القمح الذهبية تنحني للرحمن تسبيحاً،،، ولقمة الخبز كانت شهية والثياب أكثر رصانة ما عادت الحياة كما بالسابق كل شيء تلوث الآن. وهل يصلح العطار ما قد أفسده الدهر،،، لا تنظروا أبنائي الآن لتجاعيد وجهي والشعر الكثيف الذي يخرج من أذني، فقد كنت بالسابق مثلكم وأجمل من هذا،،،ولا تنظروا إلى بقية أسناني المتهالكة،،،ولا لشيبتي،،،ولا عيوني ولا سمعي ولا بصري،،، ولسوف تشاهدون يدي ترتعش أحياناً غير متماسكاً أسقط الطعام على أثاثكم الثمين وأحرجكم أحياناً أمام ضيوفكم بنومي السريع على الأريكة وألوث ملابسي كالأطفال من بواقي الطعام أنا أعرف بأني طفل كبير،،، لا تضحكوا مني الآن فقد كنت أخيف الضباع والذئاب وكان يحسب لي ألف حساب ،،،كنت أقص عليكم أروع القصص من قصص الأنبياء وقصص قديمة ما عدت أذكرها،،، فكم كنت أمشي لمسافات طويلة لأحضر لكم الطعام فلا مركبات ولا شوارع فقط هي الدواب التي كانت موجودة وليست متوفرة لعامة الناس مثلي. ألا تذكرون كيف كنت أروي لكم قصص ليلى والذئب والأمير الضفدع والصياد الطمّاع أنسيتم كل هذا،،،، هذه الأشجار والعناقيد زرعتها بيدي هذه،،، وسقيتها من شقائي وكم كنتم تعبثون بأغصانها وتتف يأوون بظلالها وتحطبون أغصانها كم كنتم محبين ثمارها ومخربين لأعشاش العصافير فكانت الأرض رمز عزتكم وبقائكم كنت المستيقظ وأنتم النائمون لا أغفل عن تفقدكم بالليل من غطائكم المكشوف خوفا عليكم من البرد القارص بتلك الأيام فعندما كان يهطل المطر تفيض الدنيا ينابيع وتتفجر العيون وكان الربيع يبقى لشهور طوال العام وكنتم تعشقون سنابل القمح الطويلة الذهبية وتلعبون بها وتعشقون الشمس وتلونون القمر. وها أنا يا أبنائي اليوم أشكو لكم سوء حالي وقلة حيلتي فلا تقسوا علي أحبائي فكما أنا الآن تكونوا أنتم غداً،،، أتذكرون السنوات التي مرت،،،وأنا أعلمكم كيف تمشون وتصارعون الدنيا خطوة خطوة ما لا أستطيع فعله اليوم ولسوف أكرر كلماتي أكثر من مرة ولسوف أعيد قصصي القديمة أكثر من مرة فأنت بني عقلي وعيني لألحق بما فاتني من الحداثة والعلم أريد بعض الوقت فأنا من علمك كيف تواجه الحياة وكيف تأسر النجاح وتفوز بالآخرة فكيف تعلمني أنت اليوم وتؤدبني،،، ماذا أقول وما يجب وما لا يجب،،، فان شاهدتموني صامتا اعلموا أني أسترجع تلك الأيام المنصرمة الرائعة وان تكلمتم معي ولم أسمعكم أعيدوا التكلم معي مرة أخرى فسمعي لا يسعفني لسماع الأصوات تذكروا بأني كنت أسمع دبيب النملة وان شرحتم لي قضية ولم أدركها رويدا رويدا علي فقد كنت الحكيم دوماً سابقا أتذكرون،،،فكم كنت أعلمكم علوم الدين وحفظ القران الكريم وكنت الأب الحاني والشغوف الضاحك الباكي كنت أضحك عندما تضحكون ولا أنام الليل حين تبكون وها أنا أشاهدكم وأنتم اليوم بأروع المناصب وعني أنتم غافلون. أتذكرون كم كنت أقبّل أيديكم وأرجلكم وأنتم أطفال آه لو تتذكرون. لم يتبقى لي من العمر سوى القليل أتمنى أن أمضي بقية أيامي معكم فلا تغيبوا عني أبنائي الأحباء. فأنا اليوم هذه حالتي،،، وكما أنا الآن سوف تكونوا حتماً أنتم فدوام الحال،،،من المحال. مهداة إلى أغلى من وهبتهم حياتي ،،،،،ارحموا شيخوختي وضعفي أرجوكم خذوا بيدي. والدكم الكهل و المحب. هاشم برجاق الموقع الرسمي للكاتب